"الخطأ الذهبي" فلسفة قصصية شيقة

أمجد توفيق كاتب فيلسوف عميق الرؤية، دخل الفلسفة من أوسع أبوابها.
مجموعة قصصية فلسفية جديدة تزهو برونقها، على ساحة الإبداع الثقافي والأدبي المعرفي
الفيلسوف يختلف كليا عما يحاوله عالم فيزيائي أو كيميائي

 ما إن توغلت في مطبوعه القصصي الجديد "الخطأ الذهبي"، حتى تخيلت أنني أمام كاتب فيلسوف عميق الرؤية، دخل الفلسفة هذه المرة من أوسع أبوابها، بعد إن كانت مداخلته معها عبر روايته "الساخر العظيم"، وروايات ومجاميع قصصية أخرى، لكنه هذه المرة، أراد أن يتحول من كاتب روائي أو قصصي إلى فيلسوف، يرتب لنا أفكاره ورؤاه، عبر فك رموز وطلاسم الزمن، ويكشف عن متناقضاته وأحواله، وكيف تتقلب أحوال الدنيا من حال إلى حال!
الكاتب اللامع أمجد توفيق عاصر كل تقلبات الزمن، وكشف متناقضاته وغدره أو مميزاته الإيجابية، بجرأته المعهودة، بالرغم من أن الفيلسوف يختلف كليا عما يحاول عالم فيزيائي أو كيميائي، عندما يحلل عناصر الطبيعة إلى ذرات، ثم يعيد تركيبها لتنتج مواد جديدة تقدم خدمة للمجتمع الإنساني واحتياجاته اليومية، وكيف يكون بمقدوره مواجهة التحديات من خلال إنتاج أسلحة المواجهة، وكيف يكون بمقدور "البعض" أن يحول إنتاجه الفكري من مواد تتفاعل ليقدم خدمة للبشرية إلى بدائل أخرى أكثر إرهابا وضررا لها، بعد أن ذهب توجه بعض علماء الطبيعة نحو بناء "مفاعلات نووية" لغير الأغراض السلمية عندما تحاول إنتاج "قنابل نووية"، في وقت لا يكون هدف الفيلسوف تدميرا، بل على العكس، فهو يسعى لإصلاح أحوال بني البشر، ويضع أمامهم منابر للعقل المتفتح، لتتلاقى الأفكار وتتلاقح وتنمو وتغزو العالم، ليسهم في  خلق الإبداع الفكري وتوفير معالم الرفاهية والسلام والاستقرار للشعوب وكيف تواجه القوى الوطنية الخيرة القمع والاضطهاد والدكتاتورية، وكيف تسمو القيم وترتفع مكانة الأفكار، لتكون لها قيمة الخلود، في حين أن المادة تفنى وتتحول من حال إلى حال، أما القيم فتبقى راسخة لأزمان، ليس بمقدور عاتيات الزمن أن تنحت في صخرها الصلد، ما دارت الأيام.
إنها حقا مجموعة قصصية فلسفية جديدة أطلت تزهو برونقها، على ساحة الإبداع الثقافي والأدبي المعرفي، أتحفنا بها الكاتب والروائي والإعلامي القدير أمجد توفيق، بغلاف أنيق وبمضامين قصصية رائعة، تحكي قصصا وتجارب القاص الذاتية والموضوعية.
و"الخطأ الذهبي" هو أحد عناوين تلك المجموعة التي توحي وكأنك تقرأ كتابا فلسفيا يصارع الزمن والأقدار ويفكك معادلة الزمن ويعيد تركيبها ويفضح تناقضاتها ويؤشر متى يمكن أن نستفيد من الزمن أو أن يكون الزمن سيفا يسلط على رقابنا، وهو يشير في عنوان فلسفته "الزمن الذهبي"، إلى التحولات التي يشهدها الزمن ، فيشير إلى أن:
"الزمن الذي يحول عنقود العنب إلى نبيذ..
والزمن الذي يمسخ فيه الفاتنة إلى شمطاء..
زمن واحد وفعلان متناقضان كالطبيعة نفسها."
أي أن الكاتب أراد أن يقول إن الزمن في المرة الأولى كان دوره (إيجابيا) وفاعلا وانتقالة إلى الحالة المثلى من العنب إلى (النبيذ)، في حين كانت انتقالة الزمن في المرحلة الثانية من (فاتنة إلى شمطاء) ..أي إلى (الأسوأ).
ثم تأتي الفلسفة الأخرى في عنوان موضوعه الآخر "أخطاء ذهبية" ليشير:
نقطة واحدة يمكن أن تحوي نقيضين..
نقطة واحدة.. جد صغيرة يمكن أن تنفتح على اتجاهات غاية في التعقيد والتضاد والاختلاف..
ثم يوضح الكاتب للقاريء نظرية التناقض في تلك الرؤية فيقول:
"أليست أعلى نقطة يصلها طائر هي بالضبط نقطة انحداره؟ وأعلى نقطة تصلها رصاصة أو قذيفة هي بالضبط نقطة سقوطها؟ وأعلى نقطة شر هي بالضبط نقطة انتهائه وتنازله؟
ألا يعني ذلك أن النقطة التي تحدد أعلى ارتفاع أو بعد أو عمق تحمل نقيضها ومبرر موتها أو إنتهائها؟" 

short story
كأنك تقرأ كتابا فلسفيا يصارع الزمن والأقدار

وهو يشير في تلك القصة أيضا إلى فلسفة العصر الحديث للساسة والمهتمين بشؤون الفكر والأخلاق والقيم، وهي "أن كثيرا من الأعمال الرائعة لا تصلح للشباب، ذلك أن الماضي لديهم، فقير لأنهم ينتمون إلى الحاضر والمستقبل أكثر من انتمائهم إلى الذاكرة التي تقتص وتمتحن الفعل المتناقض للزمن".
أما "شهادة ضاحكة" التي افتتح بها تلك المجموعة فتلخص فلسفة السياسي مع الطبيب، وهو يحاول معرفة ما توحي به توجهات هذا الطبيب عن بلده، فكانت إجاباته ربما تشكل صدمة للسياسي عندما أخبره بأنه، أي السياسي، يعرف أوضاع البلد أكثر مما يعرفه الطبيب، لأن السياسي يمتلك مجسات وتأتيه تقارير من أجهزة متخصصة وقادرة على الرصد، أما الطبيب فيبدو وقد أعياه تشخيص حالة البلد، في حين لا يهم السياسي أن يبحث عن حل لأزمات البلد بقدر حرصه على دوره ومكانته وكيف يكون له شأن في عالم السياسة!
ويرى نقاد ومتابعون للأديب أمجد توفيق أن القاص أراد من خلال تلك المجموعة التعبير عن الانتماء الوطني والالتصاق بوجدان هذا الوطن، وما له من دور ريادي زاخر في مسارات التاريخ، وهو ينحت حروفه بقلب صاف ونبع أصيل، كله إحساس مرهف وقدرة على جذب المتلقي للغوص في أعماق قصصه، لتكون له زادا معرفيا وفنيا ومدعاة للمتعة وللجمال وللذوق الرفيع في إختيار أدوات الكتابة وفنونها لكي تدخل القاريء بانسيابية إلى صفحات مجموعته الفلسفية عبر الميدان القصصي، ويتوغل كثيرا في أعماقها، وهو، أي القاريء، وإن واجه بعض الصعوبة أحيانا في استيعاب كل مقاصد ومضامين تلك القصص، كونه يستخدم الرمزية في إطارها السرمدي، وربما يدعي البعض أن الكاتب يريد أن يدخل القاريء في متاهات اللغة، لكنه سرعان ما يعيده مرة أخرى إلى رونقها وبساطتها المعهودة، ليجد أن المتعة الفنية والفلسفية هي زاد هذا الكاتب، وهو يريد الانتقال بسباكة اللغة إلى حيث يرتقي بها إلى الأعالي.
والمجموعة القصصية "الخطأ الذهبي" صادرة في دمشق عن منشورات "العربية"، بأكثر من مائتي صفحة، من القطع المتوسط، بعد أن أشرف على طباعتها متابع مبدع كما وصفه الكاتب وهو عبدالرضا الحميد، حيث أشار الكاتب عند تقديمه لتلك المجموعة أنه كان له الفضل الكبير في إصدار المجموعة، معبرا عن شكره له ولما قدمه من جهد متميز لترى النور وتشق طريقها إلى عالم الأدب والثقافة، الذي ما أحوجنا إلى أن يرفدنا المبدعون بما فاحت به قريحتهم بعد سبات قصير، توقفت فيه الثقافة، وكانت أزمة كورونا وأحداثها المريرة أحد تلك العراقيل التي أوقفت النشاط الثقافي في مختلف دول العالم، وليس في العراق فقط.
وربما يجد الكاتب والقاص أمجد توفيق أن اختياره هذا العنوان لمجموعته القصصية هذه "الخطأ الذهبي"، هو ليس محض صدفة، بل لا بد وأن أدرك الكاتب أن (الخطأ) الذي قد يرتكب هنا لا بد، وأن يصل إلى مرحلة (إعادة تصحيح المسار) لكي يرتقي إلى مرحلة أن يوصف بـ (الذهبي) ، لكون (الخطأ) لا يدل على حسن السلوك أو تقويم المسار، ودائما ما يبحث الإنسان عن (الصواب) أو هكذا ينبغي أن يكون تقييم الناس لجهد الآخرين، ولكن لأن (الخطأ الذهبي) هنا يستحق الإشادة، كونه أنتج لنا مفهوما أكثر قدرة على التغيير وعلى إعادة توازن الحياة والمفاهيم من خلال متغيرات الزمن، حتى أطلق عليه هذه (التورية) المسماة بـ (الخطأ الذهبي) على غرار عنوان روايته الكبير "الساخر العظيم"، التي كانت زاخرة بكل موضوعات الشد والإثارة لأحداث ما جرى في نينوى في مرحلة احتلالها من داعش، وتغول قوى وجماعات وجهات وشخوص، خرجت عن كل ما هو مألوف، وبعضها حافظ على قيمه وأخلاقياته، وهم شعب نينوى وأبناء الموصل الكرام الأصلاء الذين كانت تضحياتهم وبطولاتهم ومواقفهم شاخصة في مضامين روايته، وقد نالت إعجاب الملايين من القراء الذين وجدوا فيها ما يرفع القيم الإبداعية للرواية إلى مصاف العالمية.
تحية للكاتب وللأديب وللإعلامي المبدع الكبير أمجد توفيق، وهو يتألق في كل مرة بكل صور الإبداع في نتاجاته الثقافية والأدبية التي أغنت ساحة الثقافة والذائقة العراقية والعربية بما يرفع من شأنها، ويضع لها قواعد للانطلاقة الواحدة، وهو يصوغها بإطار فلسفي، لكي لا تتوقف مسارات الابداع، ويبقى الوهج الثقافي والمعرفي، يزداد توهجا.