الخفة الأميركية ومستقبل المنطقة

لم تخرج الولايات المتحدة من نفق ارتباكها وحيرتها في المنطقة بعد.

لم يضع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مزاجه الشخصي على الرف وينظر بشكل جاد وعميق إلى حضور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. اكتفى بمعالجات ترميمية وترقيعية غلبت عليها الخفة التي كان من الممكن تخطيها في أية مرحلة يختفي فيها الرئيس وادارته.

كان المأزق أكبر من أن تحضر الولايات المتحدة وسيطا من أجل أن تتدارك ما فعله الرئيس باراك أوباما وإدارته حين أدارت ظهرها للمنطقة بل وأربكت ميزان القوى فيها حين وقعت الاتفاق النووي مع إيران. صحيح أن ترامب لجأ إلى أسلوب الصدمات من أجل اختصار المسافة وكان الانسحاب من الاتفاق المذكور واحدة من أهم تلك الصدمات، غير أن تلك الصدمة لم تكن كفيلة بإعادة الولايات المتحدة إلى المنطقة بعد أن تم سحب القوات الأميركية من العراق عام 2011.

سيُقال إن أربع سنوات لم تكن كافية لمعالجة ما حدث من تصدعات، كان الربيع العربي وتداعياته من أخطرها حيث لا تزال الشكوك تحوم حول دور ما للاجهزة الاستخبارية الأميركية في ذلك التحول الذي لا تزال تداعياته تتفاعل في غير بلد عربي.

ربما كانت "صفقة القرن" أهم من العمل على وقف التدهور وانهيار الأوضاع بالنسبة للمزاج الترامبي المتوتر الذي تفاعل العرب معه انطلاقا من حسابات مشتركة تعرضت للضرر في عهد الرئيس أوباما. غير أن صفقة القرن مرت كدعابة يُمكن أن تُنسى بل وخُيل للكثيرين أنها مجرد فقاعة. ذلك لأنها تستند إلى فهم سطحي غارق في تبسيطيته لمشكلات المنطقة فيما كان العرب ينتظرون أن يتم النظر ولو مرة واحدة لقضاياهم بطريقة تحسم جزءا مهما من النقاش المزمن الذي صار أشبه بالدوامة.

لم يضحك ترامب على أحد كما يتوهم البعض.

كانت العقوبات التي فرضها على إيران خيارا بديلا عن الحرب التي يمكن أن تلحق ضررا كبيرا بالمنطقة اضافة إلى ما يمكن أن تسببه من مآس للشعب الإيراني. تلك خطوة يمكن النظر إليها من جهة ما تحققه من منافع للمنطقة على مستوى اضعاف آلة الحرب الإيرانية وقدرة النظام الإيراني على تمويل الميليشيات التي تمارس الارهاب في غير دولة عربية.

مَن قال إن ترامب لم ينجح في الوصول إلى أهداف المدى القصير من مشروعه؟

كل ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة استعادت موقعها في الشرق الأوسط. لم يحدث شيء لافت في العراق أو سوريا أو لبنان. كانت الأوضاع هناك تمضي إلى الأسوأ. ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على ضبط إيقاع وجودها في المنطقة بحيث كانت إسرائيل أكثر الدول انزعاجا مما يجري حولها.

واقعيا فإن إسرائيل تعرف العقل السياسي الأميركي أكثر من العرب.

وهي حين تفاعلت مع المزاج الترامبي مثلما فعل العرب فلأنها كانت تأمل في أن تعود الولايات المتحدة بطريقة أو بأخرى إلى المنطقة. كانت إسرائيل تعرف أن صفقة القرن مجرد دعابة لا تستحق أن يقف المرء أمامها طويلا. لذلك فإنها لم تعلق عليها.

لم تكن هناك حاجة لكي يذهب ترامب ويأتي خصمه الديمقراطي لكي يعجز المرء عن الاجابة على سؤال من نوع "أين تقع مصالح أميركا"؟ لقد ضرب أوباما مثلا سيئا حين فضل أن تهيمن إيران على أجزاء مهمة من المنطقة فيما أدار ظهره للموقفين العربي والإسرائيلي.

وإذا ما كان الإسرائيليون قد تعاملوا بخفة مع ترامب ومشاريعه على مستوى التسوية الفلسطينية فإنهم اليوم يدقون ناقوس الخطر في مواجهة ما يمكن أن تكون إدارة الرئيس جو بايدن عازمة على القيام به. ذلك ما تفعله دول عربية أساسية في المنطقة. فليس من باب التطبيع القول "إن إيران إذا ما تُركت لعبثها وما تسببه من فوضى ستشكل خطرا على الدول العربية وإسرائيل معا".
ما يحدث في فيينا ليس بعيدا عن تلك التحوطات. لم تخرج الولايات المتحدة من نفق ارتباكها وحيرتها في المنطقة بعد. تبدو عودتها الى المنطقة غير قابلة للتحقق بل وغير واردة. بايدن يفكر نظريا بالطريقة التي كان أوباما يفكر من خلالها، غير أنه عمليا ينظر إلى تأثير الفراغ الأميركي ويراقب ردود الأفعال العربية والإسرائيلية.  

فهل سيغلب الجانب العملي على الجانب النظري؟

ذلك ما سيقف عقبة دون أن تعمل إدارة الرئيس بايدن على فرض أجندة هروبها في المنطقة في اتجاه الانحياز لإيران. لذلك لن يكون الخروج من فيينا يسيرا. وما لم تستعد الولايات المتحدة حضورها في المنطقة فإن إيران سترى في الخفة الأميركية نوعا من البلاهة. لن تتعامل إيران مع الآخرين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة بطريقة جادة إلا إذا شعرت بالخوف وأن هناك نية أميركية حقيقية لمواجهتها في المنطقة.