الخلفية الأيديولوجية للأزمة الأوكرانية

ثمة من يستبعد نسبيا انطلاق حرب عالمية ثالثة، الا ان التدقيق في خلفيات وأسباب انطلاق الحروب الكبرى تشي بأن لا شيء مستبعدا في الحالة الأوكرانية.
تصاعد في منسوب التوتير والصراع مع استعمال وسائل وأدوات جديدة
مواجهة بين ليبرالية ريعية تقودها واشنطن وليبرالية إنتاجية بقيادة موسكو وبكين

نظَّر الكثيرون مع انهيار الاتحاد السوفياتي لسيطرة النيوليبرالية على باقي الأيديولوجيات السائدة آنذاك، بل اعتبرت الوحيدة القادرة على الاتيان بسعادة البشر، لكن كان امرا ما يحاك سرا وعلنا حول يقظة ايديولوجيات ليست بالضرورة جديدة، وانما بعضها انطلق من رحم النيوليبرالية وبيئتها المحببة. ومع انطلاق الالفية الثالثة كانت هناك قوى تتشكل لمواجهة القطبية الأميركية الأحادية، وهذه المرة بادوات ووسائل وايديولوجية من نفس بيئة الليبرالية الجديدة، ويبدو ان كل من موسكو وبكين ومعها حلفاء آخرين قادوا هذا الخيار.
طبعا ليس ثمة مجال للمقارنة او المقاربة بين العوالم الاقتصادية المنتشرة ابان الحرب الباردة، حيث كان الطغيان الاقتصادي واضحا للمعسكر الرأسمالي وليبراليته الجديدة، ورغم ذلك استفاقت الصين على واقع ارادت تغييره، فاستحوذت على ما ساعدها في تزاوج نظامين متناقضين رأسمالي واشتراكي، وأثبتت براعة فائقة في تدبيج نظام فرض نفسه عالميا دون صعوبات كما كان متوقعا، حيث بدا هذا النظام جزءا ومكونا رئيسا من مكونات الليبرالية السائدة آنذاك. 
في المقلب الآخر، كانت الولايات المتحدة وحلف الأطلسي يعاود ترتيب تموضعه العالمي ، إضافة الى الأوروبي، وتحديدا في الخاصرة الروسية الرخوة في شرق أوروبا وشماله الغربي، ما اعتبرته موسكو تحديا وجوديا قاتلا، هذا العنوان العسكري الأمني كان يخفي وراءه حيزا اقتصاديا لا حدود له، انطلاقا من الواقع الصيني الذي اجتاح العالم دون مواجهة حقيقية، الى جانب صحوة روسية لافتة لمحاولة إعادة التموضع العالمي بجناحات اقتصادية وازنة بعد خروجها من عباءة المؤسسات المالية الدولية، واعتمادا على قواعد إنتاجية صناعية لا ريعية، حينها بدأت بالتكتل صورا نمطية جديدة في النظام العالمي، واجهته التمرد على الهيمنة الأميركية بايديولوجية ليبرالية منافسة ولو بوسائل وطرق متباينة.
في المبدأ الليبرالية اعتمدت عصفا ريعيا قام على أعمدة رأس المال العالمي كالشركات العابرة للدول، بادواتها الريعية الأسهم والحسابات الفلكية الورقية، والتي كانت بداية تداعياتها الازمة المالية العالمية 2008، في مقابل انموذج اقتصادي مدمج راعى لمحات اشتراكية مع تطوير نظم رأسمالية وازنة، ومع الانتقال الى النصف الثاني من العقد الأول في الالفية الجديدة، بدأت كل من موسكو وبكين تتموضعان بقوة بمواجهة واشنطن الى جانب دول أخرى اقل تأثيرا، ما دفع واشنطن للبحث عن وسائل مواجهة اكثر فعالية، فكان مشروع توسّع الأطلسي، الصدام الأول في جورجيا عبر اوستيا وأبخازيا، ومن ثم شبه جزيرة القرم 2014 في أوكرانيا التي شكلت المواجهة المباشرة الأولى مع الغرب والولايات المتحدة. 
قبل أيام بثت قناة روسية رسمية تقريرا مفاده، ان ثمة صورا تتشكل للانطلاق نحو حرب عالمية ثالثة عبر البوابة الأوكرانية، طبعا التقرير ليس رسميا ولا يعبر عن وجهة نظر او قرار رسمي روسي، لكن ان يبث في هذا التوقيت فله دلالاته الرمزية التي تؤشر الى مقدمات مختلفة عن السائدة، سيما وان التقرير اتى بعد ضرب درة البحرية الروسية المدمرة موسكوفا والذي فُسر دخولا اطلسيا مباشرا على خط الازمة القائمة وهو ما اشارت اليه موسكو تصريحا لا تلميحا. 
      ثمة من يستبعد نسبيا انطلاق حرب عالمية ثالثة، الا ان التدقيق في خلفيات وأسباب انطلاق الحروب الكبرى والصراعات التي كانت تدور بينها، تشي بأن لا شيء مستبعدا في الحالة الأوكرانية، حيث بدأت تطفو على السطح عوامل أخرى وصورا جديدة مقلقة؛ ثمة تصاعد في منسوب التوتير والصراع مع استعمال وسائل وأدوات جديدة أدخلت الى ساحة الصراع، من بينها التسليح من بعض دول حلف الأطلسي لاوكرانيا، إضافة الى دخول دول كانت حيادية في بداية الازمة مثل فنلندا والسويد وبولندا ودول البنلوكس الثلاث استونيا لاتفيا ليتوانيا، وصولا الى دول وسط آسيا ككاخستان مثلا.
الصراعات السابقة أنطوت على ايديولوجيات متضادة ومتباينة، فيما اليوم تنطلق بأبعاد أيديولوجية متجانسة، ليبراليتين تحتضنان نفس البيئات الفلسفية، الليبرالية الحديثة بقسميها الريعي الذي تقوده الولايات المتحدة، والليبرالية الإنتاجية التي تقودها كل من موسكو وبكين، فهل تشكل هذه الوقائع خلفية لأزمة قائمة وشرارة لحرب عالمية ثالثة؟