الدوافع الاجتماعية للظواهر السلبية في 'مملكة القلب'

الأديبة المصرية منى زكي ترفع الستار عن حقائق حقبة زمنية شديدة الخطورة في حياة بلدنا مصر، تبدأ بعد ثورة 2011 وما تلاها من متغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية.

صدر في  عام2021 عن هيئة الخدمة الروحية للنشر رواية "مملكة القلب" للأديبة منى زكي، وفيها يرفع، الستار عن حقائق حقبة زمنية شديدة الخطورة في حياة بلدنا مصر، تبدأ بعد ثورة 25 يناير 2011وما تلاها من متغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، تتناولها الرواية من خلال أحداث حياتية يقدمها عدد من الشخوص تمثل الوحدة الوطنية وتعانق المسيحي للمسلم والمسلم للمسيحي، وإيثار كل منهما للآخر على نفسه، من رفعة هذا البلد وتقدمه وأمنه وسلامته.

والهدف من الرواية هو التأكيد علي وحدة عنصري الأمة: المسلم والمسيحي واتحاد خطاهما، وأيضا الظواهر السلبية التي نتجت عن تراكم مشكلات اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، وأدت بالجتمع كله أن يتجه نحو مناقشتها ومعرفة الدوافع إليها ووضع طرق العلاج المناسبة لها، وقد نجحت الكاتبة لما تتمتع به من سعة ثقافة وموفور معرفة وعمق التجربة الحياتية، أن تجسد الدوافع الاجتماعية للظواهر السلبية، التي انبثقت عن المتغيرات الراهنة، ونقصد باالدوافع الاجتماعية كما عرفها علم النفس الاجتماعي: العمليات النفسية التي تحرك تفكير الناس وشعورهم وسلوكهم في تفاعلهم مع الآخرين، نظرا لأن المواقف الاجتماعية تواجه الأشخاص بتفصيلات واحتياجات الآخرين.

ومن بين هذه الظواهرالاجتماعية السلبية:

أولا ـ تفشي حالات الطلاق، واتساع الخلافات الأسرية.

ثانيا ـ انتشار الإدمان وتعاطي المخدرات، وأثر ذلك في المجتمع نومناقشة طرق علاجه.

ثالثا ـ عدم مواكبة مناهج التعليم في مدارسنا لما تتطلبه المرحلة الماصرة من تطور وتطوير وملاءمة للظروف الواقعية على المستويين: المحلي والعالمي.

رابعا ـ الإرهاب وامتداد آياديه الغاشمة المضللة في أوصال المجتمع تحت عباءة الفكر الديني المستنير.

خامسا ـ الجمود العاطفي داخل أفراد المجتع وانحصار المشاعر وانغلاق الأحاسيس في التعبير عن رغبات الذات و أحلامها ورؤاها، بحجة صعوبة متطلبات الحياة وتضخم عوائقها.

وتبدأ الرواية بالكشف عن شخصية  "ندى" المطلقة الشابة، أم الطفل يوسف من شريف المدمن للمخدرات بعد رحلة نجاح وتفوق.

وتتعدد حالات الطلاق مع تنامي الأحداث، وتقف أمام طلاق د. نزارـمدير مدرسة مستقبل أفضل ـ لزوجه " عهد"،وهي ابنة أسرة سكندرية ثرية عريقة،بعد أن أنجب منها الطفل كريم زميل يوسف في فصل هذه المدرسة، وتأمل قول د.نزار إلى ندى

صفحة11 "مشكلة كمية الطلاق في الأأيام دي ـإن محدش عنده صبر، ولا أعصاب للتحمل علشان الأطفال يتربوا في جو أسري وصحي"، وبالفعل تنجح الكاتبة في التأكيد على الدوافع المؤدية لانتشار الطلاق، وترج ذلك إلي أسباب نفسية وشخصية وأخلاقية بعيدا عن الأسباب الأقتصادية ومنها ضيق ذات اليد أو الفقر .

وتدلل على ذلك بأن المدرسة "مستقبل أفضل الدولية" مدرسة خاصة غالية المصروفات، وتلاميذها أبناء المطلقين والمطلقات من الطبقات الأجتماعية الميسورة الثرية، ويتأكد ذلك في سرد الكاتبة على لسان الراوي العليم صفحة 10" بعد مضي اسبوع على بداية العام الدراسي تكتشف ندى أن 90% من زملاء يوسف أبناء مطلقات ولديهم نازع العنف والتردد ويعانون من مظاهر الضياع بين الأب والأم وتجد لكل طفل حالة خاصة مع والديه والمدرسة".

وتتعرض الكاتبة لدوافع حالات الطلاق في الأسر الفقية الحال والأمكانيات المادية وترجعها إلي زواج الأب من زوج أخرى أو ألأدمان أو سجن الأب أو الأم بسبب السرقة أو الديون وأسباب أخري مماثلة.

وتقف الكاتبة أمام ظاهرة إدمان المخدرات وتبين الدوافع المؤدية إليهن ومن بينها: اتباع أصدقاء السوء، كما في حالة شريفطليق ندى ووالد ابنها يوسف، وقد تم علاجه في مصحة نفسية لعلاج الإدمان على يد د.مريم المسيحية الديانة الراغبة في عمل الخير وعلاج المدمنين، ومنهم حماده بن عم جميل خادم د. نرمين في فيلا المعمورة بالأسكندرية.

وقد وهبت د.مريم نفسها لذلك العمل الإنساني النبيل على أرض بلها مصر، بعد أن أودى الإدمان بحياة أخيها في ريعان الشباب،

ووفاة والديه على اثر ذلك، فقررت العودة من أميركا وحيدة واهبة نفسها كطبية لعلاج حالات الإدمان، وقد نجحت في علاج شريف فعاد إلي زوجه ندى، وأيضا علاج حماده فتحول إلى إنسان إيجابي يعمل سائقا لدى د. نزار.

كما أكدت الكاتبة على ضرورة التوجه لعلاج حالات الإدمان في المجتمع وانتظار عودة أصحابها الذين تم شفاؤهم، والترحيب بهم مرة ثانية كأفراد مفيدين في خلايا الحياة.

كما نجحت نجاحا كبيرا في التأكيد على ضرورة النظر في مناهج التليم وطرق التدريس بمدارسناالآن، والعمل على تطويرها ووضعها بما يساير ويلائم متطلبات الواقع المعيش والمرحلة الحالية، بما يتماشى معالأجواء التعليمية العالمية الحديثة.

وقد تأكد ذلك في قو مسؤول وزارة التعليم في السرد الروائي صفحة10 موجها كلامه للدكتور نزار "د. نزار إحنا ممنونين جدا لإخلاص حضرتك للمناهج المصريىة وأنا شخصيا موافق على إضافة بعض المواد كما ذكرتم لمواكبة التعليم الدولي".

ومن السمات الفنية الجيدة في الرواية أن تعبر الأحداث عن الأفكار في سياق طبيعي مقنع غير متكلف أو مفتعل، كما جاء في إرسال ندي إلي فرنسا لدراسة الأساليب المتطورة في تعليم الموسيقي للتلاميذ، فعادت بأفكار جديدة مفيدة مناسبة.

ونتج عن هذا حفل فني رفيع المستوي في دولة النمسا، شارك فيه تلاميذ المدرسة وممثلو إدارتها، وقد توج بجائزةبعد أن اختتم بأغنية من تأليف ولحن وأداء الفنانة داليا فريد، وقد عبرت بكلماتها عن قضايا الواقع المعيش وهمومه، ودعت لنبذ الحروب والدمار، وأكدت علي الانتماء للوطن،وأنه القلب لكل منا،ولنعش جميعا في مملكة القلب رافضين الجرائم والقتل والحروب والكذب والظلم والضعف.

كما تتعرض الكاتبة لظاهرة وجود الإرهاب وتغلغل الفكر الديني الخاطئ المشوش في أواصر مجتمعنا وروابطه، وهو ما أدى إلي استشهاد ضابط الشرطة يوسف تادرس صديق عادكريم من القتلل، وشقيق مونيكا، ومن بعده استشهاد الضابط عادل نفسه بعد افتدائه  الطفل من القتل على يد الإرهابيين.

وليصبح الشهيدان:يوسف المسيحي وعادل المسلم مثالا حيا للوحدة الوطنية في افتداء الوطن والذود عنه ضد أي معتد،وليتأكد أن الدين لله والوطن للجميع.

وعلى أثر ذلك يتحد أبناء الأسرتين بعد استشهاد ابنيهما  أسرة نيرمين هانم أم عادل وأسرة مونيكا شقيقة يوسف التي ستتزوج وتنجب مينا، الذىي يمثل تواصل الأجيال وامتدادها وجريان الجينات المصرية في أبنائنا.

ونصل لأهم الظواهر الاجتماعية المعاصرة التي تعرضت لها الكاتبة بمهارة، وتتجسد في ضرورة تجدد المشاعر والبعد عن تجمد الأحاسيس وتصلبهان والدوة إلي التجدد والإقبال على الحياة والعمل على غرس ثمار الود والحب وإعلاء القيم الإنسانية.

وجسدت كل ذلك نيرمين هانم الأم التي انجبت الضابط عادل والفنانة المدرسة ندى وقد استمرت في إدارة شركة زوجها بعد وفاته، ونجحت في أن تقدم للمجتمع نماذج مشرفة إيجابية من الأبناء تتسم بالأخلاق الالحميدة والعطاء النبيل، وبالرغم من تجاوزها سن الخمسين إلا تدخل في علاقة عاطفية عفيفة مع د.نزار، هذا الإنسان المثقف  الهادئ  القائد الإداري ألرشيد، ويبادل كل منهما مشاعر الود والحب في اتفاق على الارتباط بالزواج، في منأى عن التفكير في كونه  أصغر منها بسنوات،فماذا يضير ذلك مادام عمر القلب يحسب بالنبض السعيد المحب لا بالسنين والساعات والدقائق.

وتستمر هذه العلاقة النبيلة بينهما حتى ختام أحداث الرواية مع حرص الكاتبة على غظهارمدى احترام نرمين هانم لفقد ابنهاالضابط عادل وحزنها عليه حزنا شديدا، وعزاؤها استشهاده فداء مصر.

وكذلك كان وفاء أسرة الضابط يوسف تادرس، وتتجلي عطفة د.نزار النبيلة تجاه نيرمين هانم بإصراره على الوقوف بجانبها في محنتها،والوجود في حياتها كظهير لها بعد غياب ابنها الشهيد،فهو المحب المدرك ماهية الحب وأنه ليس للحبحدود أو حواجز أو عوائق، في زمان قل محبوه وكثر كارهوه.

ولعل الكاتبة قد أجابت في أحداث الرواية على سؤالها"ـ هل يمكن أن تجبرنا الأقدار على أن نضع حدودا للحب والعطاء والغفرانوهل يمكن أن يجعلنا الحب قادرين على مواجهة أقدارنا..ألا يعلم الحب أن أسمي ما فيه أنه بلا حدود؟!"

وقد وفقت الكاتبة في اختيار موضوع الرواية وقضاياها وشخوصها،وقدصيغت وانصهرت في أحداث حياتية صادقة وملموسو ومؤثرة.

كما أحسنت التعبير عنعنصري الأمة: المسلم والمسيحي في سياق طبيعي غير مفتعل،فضلا عنتأكيدها على قيمة الفنون والثقافة في حياة الشعوب والأفراد، لسبيل أساسي للخروج من مشاكلنا العائقة ظروفنا الصعبة وتأخرنا المشهود.

ونلمس ذلك وندركه في السرد داخل الرواية من خلال توظيف القطع الموسيقية العالمية ل"بيتهوفن" مثل"نور القمر"

ول "شتراوس"وأغنيات ديميس روسيس مثل"وداعا يا حبي" و"تعال ارقص معي"ن بجانب الأغنيات المصرية الجميلة" أنت عمري وكروني وذهب الليل وطلع الفجر"وغيرهم،وما هذا إلا توثيق علاقة الإنسان بالفنون وأثر كل ذلك في حياته ومستقبله،لذا أكدت الكاتبة على ضرورة الاهتمام بوضع دروس الفنون ضمن مناهج التعليم منذ الصغر.

كما تؤكدعلى الانتماء لمصرنا الحبيبة من أول سطور الرواية وعبر أحداثها وحتى سطور ختامها، وقد استهلتهابتحية العلم المصري صفحة 9:   "تحيا جمهورية مصر العربية"،وكررتها ثلاث مرات،للتأكيد على غرس مبادئ الانتماء لبلدنا في نفوس أبنائنا من الصغر.

وتختتم أحداث الرواية بقول نيرمين هانم صفحة262"بس عايزاكم  ـ كمان ـ تعيشوا كلكم علشانا و علشان مصر أم الدنيا"

وجدير أن نمدح إهداء الكاتبة الرواية إلي والدتها إيزيس سلامة وابنتيها دالياو للي وإلى كل أم ربت أولادها على المثل والقيم وحب الوطن، وإلى مصر أم الدنيا.

وهو إهداء كاشف لما تتمتع به الكاتبة من حس راق وذوق رفيع وانتماء أصيل، ويضم كل هذا قلب ينبض بالحب والخير والجمال ويعي ماهية الحب وقيمته،وأنه سر الحياة ولا حياة بدون حب، وأن الحب لا حدود له ولا حواجز.

وهو ما قصدت إلي تأكيده رواية "مملكة القلب" للأديبة د. منى زكي.