كامل الشناوي صحفيا رائدا وشاعرا مبدعا

صاحب الديوان الشهير 'لا تكذبي' كان يحمل قلب طفل وعقل مفكر وهم شاعر، ورحل بعد أن قدم للصحافة المصرية تجربة رائدة سامقة وديوان شعر صادق فريد في مضمونه وتأثيره، رحل بجسده غير أنه باق في ذاكرة الوجود بأعماله الإبداعية الجليلة.

كامل الشناوي صاحب ديوان الشعر الشهير "لا تكذبي"، هو أول شاعر أثر في وجداني، ودخلت كلمات قصائده الشعرية إلى عقلي وأفكاري مفجرة ما بي من مشاعر عاطفية، بعدما استمعت إليها في عام 1975، بعد قصيدة "لا وعينيك" تلحين وأداء الموسيقار المطرب فريد الأطرش، كنت ـ وقتها ـ أجتاز مرحلة المراهقة وأسبح في بحر المحبين لأول مرة، وتخيلت أنني أرددها لمن أحببت، وكانت تصغرني بعامين، حيث كان الجو العام للقصيدة يناسب ما أعيشه حائرا بين أمواج تجربة عاطفية، كتب لها القدر أن تكون من طرفي وحدي.

لذا كانت الأبيات تصرخ بما يجيش في صدري، ويختلج بأعماقي، وتعبر عما يحتويني من أحاسيس تمزق راحة بالي، وتؤرق صفو حالي، ومنها:

والخيال الذي سما بك يوما ** يا له اليوم من خيال كسيحِ

والفؤاد الذي سكنت الحنايا **  منه أودعته مهب الريحِ

ووجدتني أجرب كتابة مثل هذه الأبيات، وحاولت أن أحاكيها بأبيات من عندي، وأقلدها بصور من خيالي، وتوهمت أنني أصبحت شاعرا، حتى التقيت ـ بعد عام ـ بالشاعر الكبير الراحل عبد المنعم الأنصاري بقصر ثقافة الحرية ـ مركز الحرية للإبداع الآن ـ فأرشدني إلى ضرورة دراسة علميِّ العروض والقوافي، وـأيضاـ التخلِّي عن أثر شعر "كامل الشناوي" الملموس بوضوح فيما أكتب، وبالفعل ذهبت بتوصية منه إلى قصر ثقافة الأنفوشي، والتقيت بالشاعر الكبير الراحل أحمد علي السمره، وعلى يديه تعلمت أوزان الشعر الخليلية، وماهية الشعر وأشكاله، وأصبح لي سمات فنية في كتابة القصيدة تخصني، ولا تشبه من تأثرت بهم من الشعراء.

بيد أني لم أزل أحتفظ في أعماقي وأفكاري ووجداني بأبيات أستاذي الأول "كامل الشناوي"، فهى نابضة في داخلي تهز مشاعري، وتذكرني بوخز التجربة العاطفية البكر، التي تسللت أنوارها إلي بدء تكويني ودنيا إدراكي، ففتحت قلبي قبل عيني علي معنى الإحساس بالجمال، وقيمة الحب، وهوما ألوذ به من قسوة الحياة وهمومهاـ بالرغم من بلوغي الستين من سنوات العمر، والجميل أنني كلما أردت أن أجدد قلبي ومشاعري أقف أمام أرفف مكتبتي الزاخرة بالكتب المتباينة والمؤلفات المختلفة، وأمد يدي لأمسك بديوان "لا تكذبي" لكامل الشناوي، وأعيد قراءته، وأتخيل محبوبتي الأولى، التي أتتبع أخبارها من بعيد، وقد صارت جدة لأحفاد كثر، وأتذكر يوم صرخت فيها بما صرخ به "كامل الشناوي"ـ  من قبلي  ـ في وجه محبوبته:

لا وعينيك يا حبيبة روحي ** لم أعد فيك هائما فاستريحي

وأبتسم وحدي وأردد في خيالي ما كتبته من أبيات فيها كانت وراء شهرتي كشاعر:

وهي التي في عيوني كان مولدها ** وبين أشواقها أتممت تكويني

فكيف تضحك عيناها لتخــدعــني ** وكيف تمتد كفاها لتدمــيـني

وكيف باتت على وجهي ملامحها ** تجمِّل الغدر في عيني وتلهيني

ويبقى الشعرُ سلوتي وملاذي، ويبقى "كامل الشناوي"قدوتي وأستاذي.

ولد الشاعر مصطفى كامل الشناوي في السابع من ديسمبر/كانون الاول 1908، في قرية "نوسا البحر" مركز "أجا" بمحافظة الدقهلية، لأسرة عريقة الحسب والنسب، فوالده الشيخ "سيد الشناوي"ـ رئيس المحكمة العليا الشرعيةـ، وهو أعلى منصب قضائي في مصر حينئذ، وقد أسماه "مصطفى كامل" لمولده عقب وفاة الزعيم الوطني "مصطفى كامل"، وتيمنا بوطنيته.

كما كان عمه فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي ـ شيخ الأزهر الشريف ـ

و"نوسا البحر" هى قرية والدته صديقة هانم بنت سعيد باشا، أما والده فولد في الزرقا بمحافظة دمياط، وكانت تتبع ـ وقتهاـ محافظة الدقهلية، لأسرة تعود أصولها للسنبلاوين.

ومصطفى كامل الشناوي هو الشقيق الأكبر للشاعر الكبير مأمون الشناوي (1914-1995).

وقد التحق مصطفى كامل الشناوي بالأزهر الشريف، ولم يلبث به أكثر من خمس سنوات، فلجأ إلى مكتبة والده ينهل منها، ويطالع ما بها، بجانب وجوده في مجالس الأدباء ودروس الآداب العربية والأجنبية، وأمده ذلك بالعلم الوفير والمعرفة الواسعة، جعله واحدًا من أبرز الشخصيات الثقافية في مصر في القرن العشرين، فقد عرف بعلاقاته القوية مع أعلام عصره من ملوك ورؤساء وسياسيين وكُتاب وشخصيات في مختلف المجالات، منذ بدأ رحلته مع الصحافة من خلال مراسلات صغيرة قدمتها جريدة السياسة الأسبوعية، وكان رئيس تحريرها د.محمد حسين هيكل، ثم شارك في عام 1928 في تأسيس جمعية الأدب والتمثيل مع الممثل والمخرج المسرحي زكي طليمات، وكان من بين أعضائها الممثل محمود المليجي والصحفي حافظ محمود.

ويذكر أن نقطة التحول في حياته كانت عندما أعجب  أمير الشعراء أحمد بك شوقي بقصيدة له نشرتها مجلة البلاغ الأسبوعي، بفضلها اختاره ليقرأ قصائده في المنتديات والصالونات الأدبية، ولكنه انقطع عن ذلك حتى لا تختصر حياته في إلقاء قصائد شعر أمير الشعراء.

نقطة التحول في حياته كانت عندما أعجب  أمير الشعراء أحمد بك شوقي بقصيدة له

ثم عمل بعد ذلك بالصحافة مصححًا لغويا في مجلة "كوكب الشرق" ثم الشبيبة، كما عمل مع د. طه حسين في مجلة "الوادي" في عام 1930، ومع عباس محمود العقاد في روز اليوسف، وبعد إغلاقها عمل بالأهرام، وتولى تحرير صفحة الأدب، ثم حرر بابًا يوميا بعنوان "خواطر حرة" ثم تولى رئاسة تحرير مجلة "آخر ساعة" بترشيح من الصحفي الشهير محمد التابعي، كما شارك في رئاسة تحرير "الأخبار".

وهو من المبشرين بقيام ثورة 23 يوليو/حزيران 1952 ومن أهم المتحمسين لها، بفضل قصيدته  "كنت في صمتك مرغم"، وقد عمل بعد قيام الثورة بمجلس تحرير جريدة الجمهورية، وكتب بها مقالات رئيسية.

وقد تميز باتساع علاقاته مع كبار الصحفيين ومن بينهم: محمد التابعي، علي أمين، مصطفي أمين، أحمد رجب، إحسان عبد القدوس، محمد حسنين هيكل وغيرهم.

واشتهر بأسلوبه السهل الساخر حتى عرف بأنه أحد ظرفاء عصر، بجانب كتابته المواضيع التي تهم القراء وتعبر عن الواقع وما يدور فيه من أحداث، ومن أهمها العدالة الإجتماعية وإنصاف المرأة ونهضة المجتمعات، وضرورة أن يكون للفن دور في قيامها وتقدمها.

وكان يكرر في يومياته رفضه المطلق للزواج وتمسكه بالحب، ومن سماته الشخصية الإفراط في السهر والإسراف في الإنفاق. ومن مآثره البارزة رعايته للمواهب الشابة وتبنيها. وقد اشتهر بميوله العاطفي للجميلات، وقد كتب عنه مصطفي أمين مقالا ضمن كتابه "شخصيات لا تنسى" جاء فيه: "في الفترة التي يحب فيها كامل الشناوي يصف المحبوبة بكل الأوصاف الحلوة والنعوت الجديدة، وهكذا كان قلبه مثل جمهوريات أميركا الجنوبية ملأى بالانقلابات والثورات والتغيرات والتبديلات وكان ذوقه في الحب غريبا لا يختار إلا ملكات الجمال".

وكان لمصطفي أمين بعد رحيله مقال شهير ذكر فيه قصة حبه للمطربة نجاة الصغيرة، واكد أن قصيدة "لا تكذبي" كتبت فيها، وأنه كان يحبها بيد أنها لم تبادله هذا الحب، ونتج عن هذا المقال أن لجأت إلى القضاء الذي قضى بحفظ الدعوى وتحملها المصروفات، بعد محاولات للتوفيق بينهما باءت بالفشل، وقد كانت هذه القصيدة قصة حقيقية عاشها الشاعر، ودخل على أثرها في حالة نفسية مؤلمة، أدت به إلى الموت.

وقد رحل إلى جوار ربه في الثلاثين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1965.

ومن أعماله  التي صدرت في حياته وبعد رحيله:

الكتب: ساعات، الليل والحب والموت، اعترافات" أبو نواس"، لقاء معهم، أوبريت جميلة، زعماء وفنانون وأدباء، وديوان الشعر: بعنوان "لا تكذبي" الذي أشرف على إخراجه شقيقه الأصغر مأمون الشناوي، وأعيد طبعه عشرات المرات، بعد نفاد ما طبع، وقد تحولت معظم قصائده إلى أعمال غنائية شهيرة لكبار الملحنين ومنهم: محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، محمد الموجي وعلي إسماعيل، وتغنى بها كبار المطربين والمطربات ومنهم: أم كلثوم، محمد عبدالوهاب، فريد الأطرش، عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة.

رحل مصطفي كامل الشناوي الشهير بـ كامل الشناوي الذي كان يحمل  قلب طفل وعقل مفكر وهم شاعر، رحل بعد أن قدم للصحافة المصرية تجربة رائدة سامقة، وديوان شعر صادق فريد في مضمونه وتأثيره، رحل بجسده غير أنه باق في ذاكرة الوجود بأعماله الإبداعية الجليلة.