"الدين القومي" إرث إسرائيل الذي تحمله إيران وتركيا

مشاريع قومية دينية متصارعة على المنطقة لا تلبث أن تتصارع بينها.

كانت صدمة حسين كبيرة في الخواجة ليتو، تاجر الماس اليهودي الذي كان يعتبره في مقام والده، صديق ليتو الذي مات، ليتولى الخواجة لاحقا الاعتناء بحسين إكراما لذكراه.

مشهد ليتو وهو يشير بمصباح يدوي للطائرات الإسرائيلية على أهداف مصرية حساسة في قلب القاهرة، خلال "العدوان الثلاثي" عام 1956، جعل حسين يعاقب ليتو بدس "تراب الماس" له في كوب الشاي، وهو يعلم أن ذلك سينهي حياته خلال مدة أقصاها شهر واحد فقط.

لم يخب ظن حسين. التحاق تونا، ابنة ليتو التي أحبها حسين طوال عمره، بالجيش الإسرائيلي كي تقاتل ضد بلدها الأصلي خلال حرب 1967 بينما كان هو يقاتل على الجبهة المقابلة، جعله يدرك أن مسألة العقيدة الدينية أغلى من أي وطن.

لا يترك فيلم "تراب الماس"، المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للروائي الشاب أحمد مراد، أي التباس في تناول صراع الوطنية بمفهومها التقليدي، وعقائد شرسة تحولت إلى بديل للهوية الوطنية.

لم يكن أحد يدرك أن هذا الفيروس، الذي زرعته إسرائيل قبل أكثر من 70 عاما، سيلتهم الشرق الأوسط بأكمله. المشكلة الأساسية أن عقيدة إسرائيل باتت المتحكم الرئيسي في معادلة القوة في المنطقة.

ما الفرق اليوم بين إسرائيل وإيران وتركيا؟ ما هي الدوافع والمحددات التي تبني عليها هذه الدول مقومات النفوذ والقوة الناعمة، والخشنة أيضا، في المنطقة؟

ربما يكمن الفرق الوحيد في أن تعريف دولة إسرائيل نفسها قائم على "القومية اليهودية" كما أكد قانون الدولة القومية العنصري الذي أقرته إسرائيل في يوليو الماضي.

مأزق إيران وتركيا، في المقابل، يكمن في الأنظمة وليس في المجتمعات المكونة لهما. هذا يعني أن معادلة النفوذ الديني في المنطقة هرمية، تقترب عقائد حكامها كثيرا عند القمة، وتبتعد بنية شعوبها وأسباب بقائها كثيرا عند القاعدة.

نعم، شرعية قيام الدولة السعودية في بداية تأسيسها ارتكزت أيضا على خدمة حجاج الحرمين الشريفين، وهو ما يحوّلها إلى دولة ذات بعد ديني. لكن الفارق يكمن في أن السعوديين تعلّموا الدرس خلال العقود الماضية عبر إبقاء فلسفة "الدولة الدينية" كبعد داخلي، وأدركوا، ولو بشكل متأخر، خطورة توظيفها لبناء النفوذ في الخارج. أيام دعم الإسلاميين والمتطرفين انتهت بعدما دفع السعوديون ثمنا باهظا.

لكن يبدو أن الإيرانيين والأتراك مازالوا في بداية عملية دفع الثمن. العملية الإرهابية التي استهدفت عرضا عسكريا في إيران أواخر الشهر الماضي، والعمليات التي تضرب أنقرة وإسطنبول ومدن تركية أخرى منذ اندلاع الحرب في سوريا لن تؤثر على نهج النظامين كما فعلت في السعودية من قبل. الفرق أن السعوديين، في علاقاتهم السابقة مع التنظيمات المتطرفة، كانوا يقفون على قاعدة تحكمها براغماتية خالصة بحثا عن النفوذ في الخارج.

في إيران وتركيا المسألة أيديولوجية تماما.

هذه المعادلة تزيل أي فروق بين علي خامنئي ورجب طيب أردوغان وبنيامين نتنياهو. في النهاية هؤلاء الأشخاص الثلاثة هم المتحكمون الجدد في النظام الإقليمي اليوم، في مواجهة مشروع عربي تقوده الإمارات مع السعودية، لم يصل إلى مرحلة النضج بعد.

ثمة تباينات ضئيلة في الممارسة لا ترتقي إلى أن تصنع فارقا. إسرائيل لا تحتاج مثلا إلى وكلاء إرهابيين كي يقوموا بعمليتها القذرة نيابة عنها، بل تتولى تنفيذها بنفسها في حق الشعب الفلسطيني مباشرة، تجنّبا لمخاطر الاعتماد على وكلاء في بيئة معادية، حتى لو كانت كلفة حدوث ذلك باهظة.

يصل التقارب إلى نقطة التماس في محاولات الدول الثلاث ركوب الأيديولوجيا الدينية (اليهودية أو الشيعية أو السنية) أمواجا قومية في سعيها للعبور إلى الآخر والاستيلاء عليه عقائديا وثقافيا ووجدانيا.

هذا الآخر هو العربي دائما. إذا أمعنت النظر قليلا فستجد أن معنى الانتصار بين القوى الثلاث مشترك. هذا الانتصار يتمحور أولا في هزيمة الإنسان العربي، سواء أكان في فلسطين أو سوريا أو العراق أو لبنان أو اليمن أو في أي مكان آخر. لا يفرق المكان، العرق والعقيدة الدينية أهم.

قد يشكل المستوى السياسي بين أنقرة وطهران بذلة أنيقة تغطي أسفلها صراعا أيديولوجيا قوميا أشبه بالحرب الباردة. هذا الصراع يبدو كمباراة يستثمر فيها الفريقان التاريخ من أجل الفوز بالمستقبل.

أنقرة وطهران تنظران إلى تقارب الضرورة، الذي لعبت السياسة الأميركية دورا حاسما في ترسيخه، كمرحلة انتقالية. بالنسبة لخامنئي، الباحث عن تمدد فارسي يصل إلى البحر المتوسط، لا يمكن التعايش مع الطموح العثماني الإمبراطوري الذي يعبر عنه أردوغان. وبالنسبة لأردوغان، هذا الصراع ليس إلا امتدادا للحروب العثمانية الصفوية، لكن بأدوات مختلفة.

التطلعات التي يمثّلها نظاما الحكم أشبه بدائرتين كبيرتين تتقاطعان لتشكّلا معا فراغا مشتركا في المنتصف. هذا الفراغ يمثل عقيدة التوسع الإمبريالي الإسرائيلي "من النيل إلى الفرات".

المشكلة بالنسبة إلينا أن كل المساحة التي تغطيها الدائرتان الكبيرتان، بما في ذلك الفراغ المشترك بينهما في المنتصف، هي مساحة العالم العربي كله تقريبا. خلو هذه المساحة الضخمة من أي شكل من أشكال المقاومة العربية يوحي بأن المنطقة انتقلت من عصر صناعة النفوذ باستخدام الأدوات العسكرية كالانقلابات وإسقاط الأنظمة بالقوة، وما تلى ذلك من تحول البترودولار إلى المتحكم الرئيسي في النظام العربي، ووصلت أخيرا إلى معادلة الدين والقومية. من لا يملك هذه العملة الصعبة لا نفوذ له.

العمود الفقري لهذه المعادلة هو الولاء. الدين واللعب على الشوفينية العرقية أرخص الطرق لشراء الولاءات اليوم. لا فرق مثلا بين الخواجة ليتو، الذي رفع عقيدته الدينية اليهودية فوق انتمائه الوطني لمصر، وهادي العامري وأبومهدي المهندس اللذين دفعهما تطرفهما الشيعي للقتال ضد العراق في صفوف الجيش الإيراني خلال الحرب العراقية الإيرانية. هذا ما تعلّمه الإيرانيون والأتراك من الإسرائيليين. يوسف القرضاوي وخيرت الشاطر أيضا هما عامري ومهندس سنيان.

إسرائيل بدأت "الترنّد" العقائدي القومي في منتصف القرن العشرين، وإيران وضعت أسس "إمبراطوريتها" الشيعية الفارسية في المنطقة في أواخر القرن وها هي تحصد النتيجة اليوم، وتركيا بدأت نفس المشروع منذ عقد مضى وتنتظر بدورها حصد النتائج.

في النهاية نجح حسين في التخلص من الخواجة ليتو بسرعة، قبل أن يتحول إلى مشروع ويصبح حزاما ناسفا في خاصرة الدول العربية. لم يعد ليتو يشكل خطرا على بقاء المجتمعات العربية واستمرارها، كما يفعل هادي العامري وأبومهدي المهندس والقرضاوي. المشكلة الحقيقية أن حسين لم يعد قادرا على التخلص منهم بدس "تراب الماس" في كوب الشاي مثلما فعل مع ليتو.