ترامب أراد إحداث انقسام في إيران فانقسمت الولايات المتحدة حول إيران

لا تحتاج إيران أن تتحرك سريعا. ستترك الأوروبيين يتفاوضون مع ترامب بالنيابة عنها.

عندما يعود ابنك من مدرسته الابتدائية لا يكون أمامك أي فرصة سوى سؤاله عما حدث معه اليوم فقط. ستكون المسألة صعبة للغاية إذا ما غامرت بسؤاله عما حدث في اليوم الذي سبقه، وسيصبح الأمر مستحيلا إذا ما قررت أخذ المغامرة إلى مستويات أعقد وسألته عن خططه في اليوم التالي. هذا طبيعي إذ هكذا يعمل عقل الأطفال. يفكر في اللحظة الآنية التي يعيشها فقط، ويجد مشقة في محاولة استعادة ما حدث في الماضي، أو التنبؤ بما سيحصل في المستقبل.

أي نظرة أولية لسلوك ترامب وعقيدته في السياسة الخارجية ستقود إلى الاستنتاج بأن هذا الرجل ربما يملك عقل طفل. من الصعب مع ترامب السير في مسارات متسقة مع تراكمات سبعة عقود من سياسة خارجية أميركية ثابتة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ليس سهلا أيضا تتبع هذا العقل المتناقض والمستسلم تماما لتقلبات الرئيس الأميركي ومزاجه الهش.

طبيعة ترامب جعلته يبدو كمن يعشق البقاء في فقاعة المرشح لا الرئيس. ليس ثمة اختلافات جوهرية يمكن ملاحظتها عند المقارنة بين حملة المرشح ترامب، وإدارة الرئيس ترامب. ما يجعلك تبدو مجرد ناشط أكثر من كونك مسؤولا هو اختصار المسؤولية في عقد الاجتماعات والتلهف لالتقاط الصور.

هذه الصور، التي يحب ترامب أن يأخذها خلال القمم مع زعماء آخرين، هي مؤشر النجاح لديه، وليس مضمون ما توصلت إليه هذه القمم. خذ مثلا قمة سنغافورة بين ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. ترامب بدأ في هذه القمة من النهاية، من لحظة التقاط صورة المصافحة بين الزعيمين، وليس من البداية، حيث العمل الشاق الذي يبذله المسؤولون في المستويات الأقل، قبل الوصول إلى التسويات النهائية بين الزعيمين لما تم إنجازه على مدار أشهر، إن لم يكن سنوات. اليوم يريد ترامب تكرار الاستراتيجية نفسها مع إيران.

تطبيق نظرية عقل الطفل والناشط والحملات الانتخابية على المسألة الإيرانية تكاد تقترب من التبسيط المخلّ. خلف كل هذا الضجيج المرتبط بطبيعة شخصية الرئيس الاستعراضية، ثمة ملامح استراتيجية رصينة.

ليس صحيحا مثلا ما يردده الكثير من المحللين الأميركيين بأن ترامب يحب الحديث إلى الزعماء الأقوياء أو الدكتاتوريين فقط، مثل كيم والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. قليل من العمق في تأمل تحركاته وطريقة تفكيره سيظهر أنه لا يستهدف كل الزعماء الأقوياء، لكن عينه دائما على الدول القوية.

في الفلبين ثمة زعيم قوي هو رودريغو دوتيرتي، وفي فنزويلا هناك نيكولاس مادورو الذي يقود نظام هوغو تشافيز القوي، وفي كوبا لا يزال نظام الأخوين كاسترو قائما، وإن تغيّر اسم الرئيس. كل ذلك لا يهم ترامب. المهم هو تأثير الدولة في محيطها وقدرتها على الفعل.

هذه النظرة تنطبق في عقل ترامب على إيران. استراتيجية "إخضاع" كوريا الشمالية هي الأداة التي يعوّل عليها ترامب في سياسة "الدوران والعودة" التي انتهجها بشكل مفاجئ تجاه إيران.

لكن لماذا لا تصلح استراتيجية "حافة الهاوية" مع الإيرانيين؟

أولا: إيران تريد سببا يمكنها من الوثوق بترامب. في النهاية هذا رئيس يغيّر كلامه بوتيرة أسرع من تغيير ملابسه. في يوم يوافق على بيان مجموعة السبع الكبار، وفي اليوم التالي يسحب موافقته عليه. يكيل الاتهامات لروسيا ويقرر طرد 60 دبلوماسيا روسيا من واشنطن، ثم يعقد قمة مع بوتين يسلم فيها مفتاح القيادة المشتركة للعالم، ويضفي شرعية أميركية على عودة "الثنائية القطبية" مرة أخرى. هذا إلى جانب تهديد أعدائه بشكل يومي والخروج عن الدبلوماسية أحيانا في سبهم، ثم يضفي عليهم المديح والثناء كأن شيئا لم يكن.

ثانيا: محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الإيراني كان صادقا عندما قال لترامب إن إيران ليست كوريا الشمالية. الفرق أن إيران قابعة تحت حكم نظام ديني عقائدي يعتقد أن الخروج على مفهوم الولاية يصل حد الكفر. على هذا لا يمكن توقع أن تصبح البراغماتية الإيرانية بلا حدود. عندما تمس هذه البراغماتية ولاية الفقيه، يتحول النظام في إيران إلى ميليشيا مسلحة، وينتهج سلوك العصابات.

الفرق الثاني أن إيران لا تلجأ إلى التفاوض إلا في حالتين فقط: أن تكون في موضع قوة، أو أن تشعر بتهديد واقعي وخطير. عندما تعاون الإيرانيون مع الأميركيين في العراق عام 2003 كانوا يشعرون بغزو أميركي وشيك، بعد سقوط نظام صدام حسين. في عام 2012 وافق الإيرانيون على التفاوض مع إدارة باراك أوباما بعدما تأكدوا من أنهم نجحوا في مراكمة قدرات نووية قد تمكّنهم من انتزاع تنازلات مماثلة من الأميركيين أيضا.

ثالثا: استعجال ترامب في تقديم عرض للحوار مع إيران يعكس أن هدف إسقاط النظام ليس مقدّما على تطلع ترامب للتوصل إلى "اتفاق شامل"، يضم البرنامجين النووي والباليستي إلى جانب نفوذ إيران المدمر في المنطقة. هذا يعمّق الخلاف بين ترامب من جهة واللوبي اليهودي والمؤسسة التقليدية المعنية بالسياسة الخارجية في واشنطن من جهة أخرى.

أغلب من يهتمون بشؤون الشرق الأوسط يرون فرصة لترك الاقتصاد الإيراني ينهار تحت وطأة العقوبات، خصوصا بعد التراجع غير المسبوق في العملة، ومن ثم انهيار النظام. ترامب أراد أن يقسم إيران من الداخل، فانتهى إلى قسم الولايات المتحدة حول ما يجب فعله مع إيران.

رابعا: توقيت طرح مبادرة ترامب للحوار مبكر للغاية، ويمنح المتشددين والإصلاحيين على حد سواء مخرجا مجانيا. كان من الممكن أن يتريث ترامب في دعوته حتى بداية العام المقبل، عندما يتضح بالفعل تأثير العقوبات التي من المرجح أن تدخل حيّز التنفيذ في نوفمبر المقبل. استعجال ترامب في عرض الحوار على الإيرانيين من الممكن أن يمثل ورقة يستخدمها المسؤولون هناك لإقناع المحتجين والإيرانيين العاديين بأن الاستراتيجية التي انتهجها النظام هي التي اضطرت الأميركيين إلى عرض الحوار.

خامسا: عندما أرادت الولايات المتحدة الحديث مع إيران حول الاتفاق النووي الأول كانت سلطنة عمان هي الوسيط، وعندما أراد ترامب الجلوس مع كيم لجأ إلى الصين. المشكلة بالنسبة لترامب اليوم أنه لا يوجد وسيط يمكن أن يقنع الإيرانيين بقبول عرضه للحوار سوى الاتحاد الأوروبي. هذا يجعل ترامب مستعدا للإسراع لتقديم تنازلات أولا، قبل أن يبدي الإيرانيون استعدادا لفعل الشيء نفسه.

في أوروبا ثمة تفاؤل بإحضار الجانبين إلى طاولة المفاوضات. إذا حدث ذلك، فسيعني أن الشركات الأوروبية وجدت مخرجا من أجل البقاء في إيران، ضمن إجراءات بناء الثقة التي يسعى الأوروبيون حاليا لإطلاقها.

منح استثناءات لبعض الشركات الأوروبية والآسيوية من العقوبات الأميركية والسماح لها بالعمل في إيران، والتوقف عن إشارة المسؤولين الأميركيين إلى إسقاط النظام، سيكون مقابلا لإفراج الإيرانيين عن المعتقلين الأميركيين، والتوقف عن استهداف الملاحة في مضيق باب المندب، وإنهاء عرقلة تشكيل الحكومة العراقية.

إذا كان ترامب يريد حقا إسقاط النظام الإيراني، كان لينتظر تحول هتافات المتظاهرين الإيرانيين من الفئوية والمطالبة بتحسين الخدمات، إلى شعار إسقاط النظام. مشكلة المبادرة التي طرحها الرئيس الأميركي هي أنها سبقت القوة التي بيدها تحديد مصير هذا النظام بخطوة للأمام، دون تقديم رؤية واضحة للمرحلة التالية. كان طبيعيا أن ترفض إيران الدعوة، ببساطة لأنها لا تزال تملك رفاهية الرفض. ترامب لم يستوعب أن في السياسة يكون توقيت اتخاذ القرار أحيانا أهم من القرار نفسه.