العقوبات على تركيا وإيران تبني قواعد النظام الإقليمي الجديد

سياسة التمسك بالورقة الواحدة في المناورة مع الأميركيين تبدو لحظية ومؤقتة، ولا تؤثر كثيرا على رؤى الأميركيين ولا قناعاتهم بضرورة معاقبة تركيا وإيران.

باتت سياسة الورقة الواحدة هي المحور الرئيسي الذي يتحكم في علاقة تركيا وإيران مع الولايات المتحدة. الأمر يشبه التعلق بقشة، كما يقول المثل العربي المعروف.

في إيران، يتعمق خيار الضرورة بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي، كلما ضيقت الولايات المتحدة الخناق على النظام، وفي تركيا لم يعد أمام الرئيس رجب طيب اردوغان سوى ورقة القس أندرو برانسون لمساومة الأميركيين بها.

بات واضحا أن العقوبات الاقتصادية ستكون العصا الأميركية لتأديب الإسلاميين في المنطقة. الأميركيون، تحت حكم دونالد ترامب، فهموا أن المشكلة ليست في أذرع الإسلاميين، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في الرأس.

ليس صحيحا أن واشنطن منزعجة من تمسك إيران بالاتفاق النووي، واستمرار اردوغان في احتجاز برانسون. من الممكن أن تثير مسألة برانسون خصوصا ضيق ترامب، الذي يريد اخراجه من تركيا بطريقة احتفالية تحسب له قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس المقرر إجراؤها في نوفمبر المقبل. لكن المؤسسات الأميركية لها رأي آخر.

كلما طال أمد بقاء إيران في الاتفاق النووي، كلما تضاعفت قدرة واشنطن على فرض المزيد من العقوبات على إيران، وكلما كان أثر هذه العقوبات مؤلما بالنسبة للإيرانيين. إذا لم يكن يجمع إيران أي اتفاقات اقتصادية مع الشركات الأوروبية وغير الأوروبية بموجب الاتفاق النووي، لما كان للعقوبات الأميركية على هذه الشركات معنى. وقتها لم يكن نظام العقوبات ليفرق كثيرا مع دولة لم تجرب الاستثمار أو تبني خططها المستقبلية عليه. اقتصاد المقاومة كان سيشكل عقبة أمام شعور الإيرانيين بتأثير هذه العقوبات.

احتجاز اندرو برانسون في تركيا مجرد ثغرة مكنت الولايات المتحدة من اضفاء شرعية على العقوبات التي فرضتها على وزيرين تركيين، وعلى قرار مضاعفة الرسوم الجمركية على صادرات الصلب والالومنيوم التركية إلى الولايات المتحدة. المسؤولون الأميركيون كانوا بحاجة إلى تبرير قرار غير مسبوق، وهو فرض عقوبات على حليف وعضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو). عناد اردوغان يخدم الأجندة الأميركية، ويبقي على وجاهة القرار قائمة.

ليس غريبا أننا لم نشهد احتجاجا من الأعضاء الآخرين في الناتو على قرار كهذا. اردوغان لم يترك له أصدقاء في أوروبا خصوصا للدفاع عنه أمام التحركات الأميركية، التي تستهدف بالأساس توجيه صفعة سياسية له كرئيس، على المستويين الداخلي والخارجي. ترامب يرى المسألة شخصية، والمؤسسات الأميركية تراها استراتيجية.

مشكلة اردوغان أنه لم يفهم أن الضغط الذي مارسه على الأكراد السوريين إلى جانب القواعد الأميركية في منطقة شرق الفرات، أثرت على التخطيط الإستراتيجي الأميركي بشكل مباشر. تقليص أعداد هذه القواعد، أو الاضطرار لسحب جنود أو معدات عسكرية نوعية من المنطقة إرضاء لتركيا، خلق ثغرات في الانتشار الاستراتيجي للقوات الأميركية في الشرق الأوسط.

تصريحات اردوغان المتمردة، والزائدة عن الحاجة أحيانا، تسببت في تحويل الخلاف بالنسبة لترامب إلى مسألة شخصية. بات ثمة توافق أميركي، من الجانبين الشخصي الذي يمثله ترامب والاستراتيجي الذي تمثله المؤسسات، على عقاب تركيا.

إذن، إذا كانت إيران وتركيا تنظران إلى الاتفاق النووي واحتجاز اندرو برانسون باعتبارهما قشتين تتعلقان بهما بحثا عن النجاة، فإن نفس هذين الملفين في نظر الأميركيين هما الحجران اللذان ستغرقان بهما واشنطن نظامي الحكم المتطرفين في البلدين.

الأمر بات يتعلق أساسا بطول المدة التي يستطيع فيها البلدان الصمود في مواجهة الضغط الأميركي.

تعقيد الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين حول نظرة الغرب لروسيا والاتفاق الإيراني والسياسات التجارية الحمائية وانعزال الولايات المتحدة، يفكك النظام الليبرالي العالمي الذي تأسس بعد انتهاء الحرب الباردة، ويعيد تركيبه على أسس جديدة تماما. ليس صحيحا أن هذه معركة الغرب فقط. منطقة الشرق الأوسط ستشهد تغييرات جذرية أيضا كامتداد لهذا النظام الجديد، الذي يحدد ملامحه الغرب كالعادة.

الأقدار كانت سببا في أن تكون إيران وتركيا حجري الزاوية في رسم ملامح المعادلة الجديدة التي ستتشكل في االشرق الأوسط. بمعنى أدق، النتائج النهائية التي سيسفر عنها المخاض الذي تمر به إيران وتركيا مع الغرب ستحدد مسار المنطقة لعقود قادمة.

إذا تمكن البلدان من المناورة لفترة تكفي لدفع الولايات المتحدة لتقديم تنازلات، أو تطول إلى حين استقرار الشكل الجديد للمنطقة، فستصبحان القوتين الوحيدتين اللتين ستتحكمان، مع إسرائيل، في معادلة القوة الإقليمية، دون أي منافس عربي على الإطلاق. أما إذا انهار تماسكهما في صراعهما مع الولايات المتحدة، فلن يبقى أمام المنطقة سوى ضرورة قيام تحالف عربي يملأ الفراغ، أو الفوضى.

هذه المعادلة تعكس أن لا إيران ولا تركيا تملكان إستراتيجية تقوم على تعدد الخيارات حاليا. سياسة التمسك بالورقة الواحدة في المناورة مع الأميركيين تبدو لحظية ومؤقتة، ولا تؤثر كثيرا على رؤى الأميركيين ولا قناعاتهم بضرورة معاقبة البلدين. الأمر يبدو وكأن ظهر تركيا وإيران إلى الحائط، بينما تتلقيان الضربات دون أن يكون لديهما فرصة للرد أو حتى التفكير فيه.

المشكلة التي يريد أردوغان خصوصا أن يتجنبها هي تحول تركيا إلى المثل الذي يضربه الأميركيون لأي قوة إقليمية حليفة تتحرك، عسكريا أو سياسيا، بشكل متعارض مع رؤية الولايات المتحدة. المسألة لم تعد تقتصر فقط على تقويض المصالح الأميركية في المنطقة كما كانت العادة دائما. المسؤولون الأميركيون يلاحظون مع الوقت تزايدا في رغبة حلفاء واشنطن الإقليميين، كتركيا والسعودية والإمارات، في التحرك وانتزاع مصالحهم بشكل منفرد، بغض النظر عما تعتقده واشنطن أو تريد تحقيقه.

إذا ترك هذا الاتجاه، الذي ينحو للاستقلالية ولو ظاهريا فقط، في التمدد بين معسكر الحلفاء، فهذا يعني أن النظام الجديد الذي ينشأ في المنطقة سيقوم على لامركزية القرار، ومن ثم ستنتقل إدارة الصراع من المستوى الدولي إلى المعايير الإقليمية التي تتحكم فيه. هذا يعني أن المنطقة ستصل إلى نهاية عصر "الشرطي الأميركي" الذي شكل محور رسم التوازنات منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الشرق الأوسط نموذج مصغر لتفاعلات المعادلة الدولية التي تحصل الآن. كما أن هناك سياستين في عصر ترامب، تقومان على عداء الحلفاء وصداقة الأعداء، على المستوى الدولي، ينطبق الأمر نفسه على الشرق الأوسط. ترامب يسعى للتصالح أو الحوار مع طهران عدو واشنطن، ويشدد الخناق على أنقرة حليفتها. هذا موقف قد يحتاج فيه البلدان إلى أكثر من قشتين كي يضعا خطط انقاذ واقعية.