
الرواية جنس أدبي آكلا أكولا لغيره من الأجناس
يرى د. عزوز علي إسماعيل أن تداخل الأجناس الأدبية في هذه الفترة الزمنية أصبح لافتا للانتباه، وبخاصة في الرواية العربية، وهي جنس أدبي كبير، له قيمته في عالم الأدب.
وقال في الجلسة التي رأسها الناقد الدكتور محمد شاهين - ضمن جلسات ملتقى القاهرة السابع للإبداع الروائي "الرواية في عصر المعلومات" الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة خلال الفترة من 20 – 24 أبريل/نيسان 2019 - إن الرواية تحمل عددا ضخما من الرسائل، وهو أمر يجب التوقف عنده ودراسة شعرية تلك الرسائل وأنماط الإبداع فيها، لأن الشعرية فرع من فروع المعرفة، التي تسعى إلى فك طلاسم النصوص بعد أن عجزت البلاغة القديمة عن ذلك.
وأضاف: تلك الرسائل وجدناها عند كتاب كبار الرواية العربية نحو الكاتب الروائي واسيني الأعرج في روايات عديدة لديه أهمها "طوق الياسمين"، وهي من الروايات التي تلامس القلوب والتعاطف مع الآخر أيا كان ذلك الآخر، وكيف أن الحب لا يفرق بين الأديان، فجميع الأديان تدعو إلى الحب والسماحة والسلام، كما كان الحال عند عيد عشاب ومحبوبته سلفينا، وهذه الرسائل تدعونا إلى التأمل والبحث في شعريتها، وأيضا النظرة إلى التأثر الذي تأثر بها واسيني الأعرج في هذه الرواية وغيرها، كما كان الحال في التراث العاطفي الديني القديم، وقصة أبيلار الذي أحب هلويز، وشاعت تلك القصة واستقى منها الكثيرون الفكرة وانطلقوا في صياغة روايات جديدة.
ويحسب لواسيني الأعرج – حسبما يرى عزوز إسماعيل – وغيره من الكتّاب أنهم وظّفوا الرسالة توظيفا يتناسب والرواية الحديثة بحيث كانت مثل القنابل المدوية في العمل الروائي.

ويوضح إسماعيل أنه فضلا عن شعرية تلك الرسائل، فإن اللغة التي تتناولها الرواية بها نوع من التجلي الفكري الذي يرتقي بالرواية في عصر ما بعد الحداثة، وفي عصر اتسم بالتشظي الفكري حيث يشارك المتلقي الكاتب في إكمال العمل، وهنا نؤكد علاقة التكامل بين المتلقي والكاتب، وما دامت الرواية تحتاج لإكمال فهي رواية عابرة، ولها قيمتها أي أن الكاتب لم يقل كلمته الأخيرة فيها، وهو ما يتضح كثيرا في الرسائل الروائية سواء أكان عند واسيني الأعرج أم عند غيره من الكتاب الذين يتعمدون اللجوء إلى الرسالة في العمل باعتبارها تقنية سردية في العمل من جهة، ومن جهة أخرى تعتبر متنفسا للروائي لطرح فكرته، وتصبح هناك قراءات عديدة للعمل الواحد.
ويؤكد الناقد التونسي د. محمد آيت ميهوب - في بحثه "حوارية الرواية في عالم لا حوار فيه – قراءة في رواية أمجد عبدالدائم يركب البحر شمالا للشاعر محجوب العياري" - أن الروية هي أقدر الأجناس الأدبية على محاورة غيرها من الأجناس والانفتاح عليها واستعارة أدواتها الإبداعية وإحلالها عالمها، حتى أضحت مع الأيام جنسا أدبيا آكلا أكولا لغيره من الأجناس، وقد ساعدها على ذلك عوامل بنائية عديدة أهمها: اتساع فضائها النصي، وامتداد عالمها التخييلي، وقيامها على تعدد الأصوات وتنوع اللغات، وانعتاقها من نظرية نقدية تحدد لها شروطا وقواعد صارمة يلزم الروائيون باتباعها، كما حصل للشعر والمسرح من قبلها، فكانت الرواية "جنسا لا قانون له". ذلك كله – في رأي ميهوب – ساعد الرواية على أن تتسم بالحوارية والانفتاح على بقية الأجناس الأدبية، وأتاح لها قدرا هائلا من الحرية أثناء عملية الإنشاء الفني، فأمكن للروائي في النص الواحد أن يكون شاعرا متى عنَّ له ذلك، وأن يتشبه بمؤلف المسرح متى أحب، وأن يتخفى كلما وجد لذلك ضرورة وراء قناع التخييل ليكتب سيرته الذاتية.
ويشير محمد آيت ميهوب إلى أن ما شدّه في رواية "أمجد عبدالدائم يركب البحر شمالا" للشاعر التونسي الراحل محجوب العياري (1963 – 2010) هو قيام ضرب غريب من التنافر بين الحوارية في بناء النص الروائي، وما يضم من أجناس أدبية تتداخل والجنس الروائي من جهة، وغياب الحوار بين شخصيات الرواية وانعدام الاتصال بين المجموعات البشرية والثقافية التي تغمر النص التخييلي من جهة أخرى، ويتساءل: هل تكون الحوارية الأجناسية في النص تداركا لغياب الحوار بين البشر في العالم الروائي؟

ويوضح ميهوب أنه في مقابل انغلاق العالم المرجعي الذي تحيل عليه الرواية بشرا ومدنا وحضارات وبحارا، تتسم رواية العياري بطاقة حوارية عالية لافتة لانتباه القارئ، بل هي الظاهرة الأكثر بروزا في النص، وفي ذلك برهان على أن الحوارية في النص كانت اختيارا أدبيا وسرديا مقصودا لذاته، حرص المؤلف على أن ينتبه إليه القارئ ويجادله فيه أثناء فعل القراءة ويقف منه موقفا تثمينا كان أو انتقاصا، ولعله يحق لنا أن نستخلص من هذا الحضور الملح للمنزع الحواري في الرواية كمون رغبة لاعجة في جعل الحوارية بديلا لغياب الحوار الإنساني والحضاري في العالم.
ويطرح ميهوب – في ورقته - عددا مهما من الأسئلة مثل: أين هي المسافة الفاصلة بين صوت الشاعر وصوت الروائي؟ وهل يمكن أن نفصل في تجربة المؤلف الواحد بين صوته شاعرا وصوته روائيا؟ وإذا كا يمكن أن نقول القول شعرا فلم نكتبه سردا؟ وإذا أمكنّا أن نكتبه سردا فلم نعود إلى الشعر ثانية لنقول القول نفسه؟ ولكن أمتأكدون نحن أن القول الواحد يرحل من جنس أدبي إلى آخر ثم يعود هو نفسه لم يمسسه التغيير؟
وعن الموضوع نفسه يتحدث الناقد محمد خلف الله سليمان، حيث يستعرض في ورقته مفهوم تداخل الأجناس الأدبية والإبداعية، وهو موضوع أثار اهتمام عديد من الدراسات بحسبان أن كل جنس أدبي قد اجتثَّ من أجناس أخرى، وليس هناك جنس مكتفٍ بذاته، غير أن أرسطو قد حرص (من قبل) في تبني منظور أن كل جنس أدبي يختلف عن الآخر من حيث القيمة والماهية بانفصاله عن الآخر، فيما عرف بمذهب "نقاء النوع" أو "صفاء الجنس".
من ناحية أخرى – كما يشير سليمان – يرى هنري جيمس أن الأجناس الأدبية تشكل حياة الأدب ذاتها، بينما أوضح موريس بلانشو "أن لا وجود لأي وسيط بين النتاج الأدبي الخاص المتفرد وبين الأدب بأكمله" حيث أشار إلى أن جيمس جويس قد قام بتحطيم الشكل الروائي وجعله زائفا ودفع إلى الشعور بأن الشكل لا يحيا إلا عبر انحرافاته، فالأنماط الشكلية التي توجد في أعمال كتّاب "تيار الوعي" تم تبويبها إلى عدة نماذج مثل الوحدات (الزمان والمكان والشخصية والحدث).
ويوضح محمد خلف الله سليمان أن جيمس جويس استخدم خططا لم تستخدم في الأدب قبل روايته "يوليسيس"، كما تناولت ورقته مفهوم جوليا كرستيفا في "النص المحدود" وأعمال باختين في مجال النظرية الأدبية، والرأي القائل بأن "كل نص ما هو إلا مجموعة من نصوص غائبة",
كذلك تشير ورقة سليمان إلى عدد من الأعمال الروائية تداخلت فيها الأجناس الإبداعية، واستفادتها من ذلك، فكثير من الكتاب تشكلت رؤيتهم للعالم بصورة جديدة من خلال سيرورة التجربة البشرية. وتخلص ورقته إلى أن تداخل الأجناس مصدر ثراء وقوة لكل جنس، وهو تأكيد لاغتنائها بالتجارب الإنسانية والأشكال الإبداعية المختلفة من سينما ومسرح وغيرها.

ويرى الباحث أنه علاوة على الانفجار المعرفي الهائل، فمعالجة الأعمال الأدبية المفتوحة يعني أنها تسعى جاهدة إلى أن تظهر غامضة غموض الحياة نفسها (كما يقول إمبرتو إيكو) وهكذا تظل الأجناس الإبداعية متداخلة في ثرائها وتفاعلها، ومكتفية بذاتها في نفس الوقت.
وعن رواية الرسائل العربية "إشكالية النوع وتقنيات السرد" تحدث محمد سيد متولي فقال إن الرواية الرسائلية التي يقوم بناؤها السردي على رسائل متبادلة بين شخصين أو أكثر، أو رسائل كتبها شخص واحد، تمثل نوعا من أنواع الرواية راج رواجا كبيرا في القرن الثامن عشر، حيث شكلت روايتا صموئيل ريتشاردسون "باميلا" 1741 و"كلاريسا" 1747 المكتوبتان في شكل رسائل، علامتين بارزتين في تاريخ القصص الأوروبي، وقد ألهمتا كثيرا من المقلدين مثل روسو في "هلويز الجديدة" ولاكلو في "العلاقات الخطرة".
ويؤكد متولي أن هذا النوع من الرواية ازدهر في العصر الحديث لازدهار وسائل المراسلة وظهور الإنترنت، فظهرت روايات كثيرة تعيد هذا الشكل إلى الحياة، ولم يكن الفن الروائي العربي بمعزل عن ذلك، ففي ظل السعي الدائم نحو التجريب ومواكبة العصر ظهرت روايات عربية كثيرة من هذا النوع الرسائلي، بعضها مبني على الرسائل الورقية التقليدية، وبعضها أسهم عصر المعلومات في تطور بنائه وفق قالب الرسائل الإلكترونية.
وأوضح محمد سيد متولي أن ورقته البحثية تقوم على قراءة هذا النوع من الرواية من حيث هو ضرب من تداخل الأنواع (الرواية / الرسالة) فتكشف عما يمنحه هذا الانفلات من قيد الشكل للكاتب من طاقة وفاعلية تمكنه من التعمق في عرض القضية وإثراء التقنيات عن طريق التهجين بين الأنواع من ناحية، وترصد كذلك ما لحق بهذا الشكل من تطور في عصر الإنترنت والتكنولوجيا، وتبين قيمته السردية من ناحية أخرى، وذلك بالتطبيق على بعض النماذج من رواية الرسائل العربية مثل "عاشقان من بلاد الرافدين" لجاسم مطير، و"مدينة الله" لحسن حميد، و"بريد بيروت" لحنان الشيخ، و"الكاتبة" لأميمة عز الدين، ومن النوع الثاني المبني على الرسائل الإلكترونية "إيميلات الليل" لإبراهيم جاد الله وكلشان البياتي، و"أطلس عزران البغدادي" لخضير فليح الزيدي"، و"أبناء الديمقراطية" لياسر شعبان، و"آخر المحظيات" لسعاد سليمان، وغيرها.