الرواية.. ونظرية ما بعد الاستعمار

التهميش الكامل للمرأة، بل غيابها يعد سمة أساسية للغالبية العظمى من روايات المستعمرات التي يكتبها الرجال لجمهور من الذكور.
أشرف زيدان انتقي مادته بعناية تخدم غايته
المترجم يعرض في الكتاب نصًا.. رؤية.. وتعريفا مفيدًا لما يطرحه من نصوص وأعمال أدبية

ما بعد الواقعية.. ما بعد الحداثة.. ما بعد الاستعمار.. ما بعد الكولونيالية.. مصطلحات تتجدد دائما كلما قضيت فترة من الزمن، وعصر من العصور، ونبحث عن مفاتيح الدخول إلى عصر جديد.
هذه المراحل تبدأ بعبارة تعريفية مطلقة "ما بعد.."، ثم يصل التعريف إلى غايته تحت مسمى العصر، أو المذهب، وتحديد معالمه.
وهذا الكتاب المترجم إلى العربية من تأليف جون ماكلويد.. وآخرين، وترجمة الدكتور أشرف إبراهيم زيدان ومراجعة الدكتور جمال الجزيري، ليس مجرد كتاب منقول من لغة إلى لغة أخرى، لأن الدكتور أشرف زيدان انتقي مادته بعناية تخدم غايته، كما أسند إلى الدكتور جمال الجزيري مراجعة الترجمة، وعمل هوامش تفسيرية لما ورد فى النص من مصطلحات ومعانٍ بحيث صار الكتاب مكتمل البنية والصورة مما أعطى الكتاب قيمة للمعنى، بالمعنى المطلق، بعيدًا عن فكرة المضمون التقليدية في النقد الأدبي بحيث يعرض المترجم في الكتاب نصًا.. رؤية.. وتعريفا مفيدًا لما يطرحه من نصوص وأعمال أدبية.
 يبدأ الكتاب بحديث عن رواية المستعمرات لرتشارد ربِلْ، ويقصد بذلك الرواية التي تدور في العالم الاستعماري، أو الإدعاء برسالة التحضر للشعوب الهمجية، وهي الدعوة التي ثبت كذبها حينما تحول الاستعمار بعد الكشوف الجغرافية إلى وحش يلتهم خير المستعمرات من مواد خام ويستعبد أبناء المستعمرات ويحولهم إلى وقود لإدارة حياته في المزارع والمصانع دون أي جزاء إلا الإذلال والإهانة. 
ولكن بين الدعوة للتحضر واكتشاف النتائج المزرية لأحوال الشعوب المستعمرة مر زمن طويل أنتج من الأعمال الأدبية ما كان ينطق بأحوال المبشرين بالمدنية والتحضر قبل أن ينكشف زيفهم ويظهر الوجه القبيح البشع الذي عانته شعوب المستعمرات.
ويستشهد رتشارد ربل بمسرحية "العاصفة" لشكسبير، ورواية "أفرا بن" لأورونوكو 1688 ورواية دانيال ديفو "روبنسون كروسو" 1719، وكذلك أعمال كبلنج، وجوزيف كونراد في "لورد جيم".

إدوارد سعيد يرى أن المنفي يقيم علاقة جدلية مع مفهوم الأمة التي تشغل موقعا مركزيًا في روايات الهجرة والشتات، ما ينتج ما يسميه تشارز تيلور سياسة الاعتراف التي تؤثر على إدراج المنفي في هوية قومية متماسكة، أو استبعاده منها

ثم ظهرت روايات سير والتر سكوت لتلقى الضوء على الأحوال في المستعمرات في الهند، فكانت "ابنة الجراح" 1927 ضوءًا على الطغاة الشرقيين، وعلى البطل الإنجليزي الجرئ!! والشابة الإنجليزية التي يجب عتقها من العبودية التي يعرضها لها أحد السلاطين الشهوانيين. ومما ساعد على انتشار هذا النوع من روايات الاستعمار ظهور السينما التي زادت الإحساس بسطوة المستعمر وقوته.
وفي تعليق الدكتور إبراهيم عوض على هذا الفصل الذي يتناول رواية المستعمرات يشير إلى ملاحظتين هما: أن كُتاب الرواية الإنجليزية يرمون الشرقيين بالشهوانية والوحشية وقطع الطريق رغم أن هذه هي صفات الأوروبيين في عهد الاستعمار بامتياز، أما الملاحظة الأخرى التي أشار إليها الدكتور أشرف زيدان وعلق عليها الدكتور إبراهيم عوض فهي أن التهميش الكامل للمرأة، بل غيابها يعد سمة أساسية للغالبية العظمى من روايات المستعمرات التي يكتبها الرجال لجمهور من الذكور.
 ويعلق إبراهيم عوض بأن هذه الملاحظة يجب أن تدرس، فكثير جدًا من روايات الاستعمار تخلو من المرأة، بل ومن الكلام عنها. وكأن المرأة لا وجود لها أو كأن الرجال قد تخلصوا من الاهتمام بها تمام التخلص؛ فلم تعد تشغلهم أو تثير مشاعرهم، أو تخطر لهم على بال.
 ويستشهد بشخصية "كروسو" خلال الثلاثين عاما التي قضاها وحده على الجزيرة المنعزلة قرب أميركا الجنوبية، ولم يفكر قط في المرأة، ولم يذكر الكاتب أو يلمح إلى أنه انشغل بها، وكأن غريزة الجنس قد عطلت لديه تمامًا فلا تفكير في المرأة، ولا اشتهاء لها. مع أن غريزة الجنس من أقوى الغرائز، بل هي أساس الغرائز عند كثير من علماء النفس.
أما نظرية ما بعد الاستعمار، فتهتم بدراسة الطرق التي تستخدم لمقاومة هذا الاستعمار كقضايا الحدود والانتماء والهوية والمواقف تجاه الثقافات المختلفة والإزاحة ووحشية النظام القضائي ومدى القوة التاريخية للثقافات الأصلية التي تم إحلالها وتشويهها، ووجود ميراث ثقافي ثرى وأكثر قدمًا وأكثر تحررًا من تلك الثقافات الأوروبية.." وتتعرض لنقاط خلاف كبيرة حول مزايا دراسات ما بعد الاستعمار وعيوبها، ومدى إمكانية أو عدم إمكانية أن تساعد هذه الدراسات بشكل فعال المقاومة المتواصلة للاستعمار وإرثه السياسي والإبداعي الذي لا يزال قائمًا، أما آخر نقطة خلافية حول النظرية فهي كيف يكتب المصطلح أيكون post- colonialism أو postcolonialism كلمة واحدة بمعنى هل انتهى الاستعمار فعلًا ونحن حاليًا فى عصر يخلو من هذا الاستعمار تمامًا، أم أن الاستعمار اختفى ظاهريًا على المستوى العسكري أو الاحتلال وظلت آثاره وعواقبه حاضرة في حياة الدول التي كانت خاضعة للاستعمار وثقافتها وآدابها.
 كان مصطلح "ما بعد الاستعمار" مصطلحًا تقصيريًا أي أنه مرحلة من مراحل التطور التاريخي في عصر انتهى، ولكن المصطلح تحول من مجرد كونه يدل على فترة تاريخية تالية للتحرر، إلى كونه فلسفة وأيديولوجيا متشعبة.
ويرى الفيلسوف الرائد إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" أن الاستعمار الفرنسي والإنجليزي للشرق الأوسط ما كان بإمكانه أن يحدث على أرض الواقع ما لم تؤسس أوروبا شبكة معقدة من المعارف حول تلك الأراضي الأجنبية، فإنتاج مثل هذه المعارف – خاصة في الفنون والعلوم – ساعد على تسويغ نزع ملكيات الشعوب المستعمرة وحكمها تسويغًا فكريًا وأخلاقيًا، وفي الوقت ذاته صاغوا أسلوبًا في التفكير لتطبيع التباين البِّين بين الغرب الذي يقسم بالتقدم والتحضر والعقلانية، والشرق الذى يتسم بالتخلف والبربرية وعدم المنطقية.
والاستشراق "orientalism" هو المصطلح الذي حبكه إدوارد سعيد ليصف هذا الأسلوب من الفكر الذي سَمَّى شيئا لم يكن له وجود في الواقع، فالشرق لم يكن موجودًا كمصطلح بل كفكرة لها تاريخ وتراث من الفكر والتصور والمفردات منحت الشرق واقعًا وحضورًا في الغرب وللغرب. 
ويبنى إدوارد سعيد حُجَجُه على ثلاثة منظرين معاصرين هم: ميشيل فوكو، وأنطونيو جرامشي، وجاك دريدا. وهناك مفكران هنديان ينتميان إلى مدرسة ما بعد الاستعمار هاجرا إلى الغرب هما: هوفي ك. بابا، وجيا تريشيا كرافور تيسبيفاك. وقد ساعدا على جعل مصطلح ما بعد الاستعمار مألوفًا إذ إنهما استشهدا بأمثلة من النصوص التي تدل على منهجهما.  

Translation
أشرف زيدان

وقد مرت قصص وروايات مرحلة ما بعد الاستعمار بثلاث مراحل؛ تشتمل المرحلة الأولي منها على كتابات السبعينيات من القرن العشرين لكُتاب من إفريقيا وكندا وجزر الكاريبي وجنوب آسيا وجزر جنوب المحيط الهادي، ومنها قصة تشينوا أتشبي الرمزية عن نيجيريا "عندما تتداعي الأشياء"، ورواية إييكوي هارما "الجميلات لم يولدن بعد"، ورواية "شارع ميجيل" تأليف ف س نايبول.
والمرحلة الثانية من روايات ما بعد الاستعمار جاءت من مهاجرين إفريقيين وآسيويين إلى القارة الأمريكية الشمالية وبريطانيا، وقد اهتموا بتجارب الهجرة والمواطنة العالمية ومنهم: سلمان رشدي فى روايته "أبطال منتصف الليل"، ورواية "الحلوى المرة" لتيموثي مو، ورواية "في جلد أسد" "لمايكل أونداتشي وغيرها.
ومع بداية التسعينيات من القرن العشرين، ظهرت أعمال: بيتر كاري "مفتش الضرائب من استراليا"، ورواية كويتزى من جنوب إفريقيا "العار"، وروهنتون مسترى في "توزيع بديع". وقد تبع هذا التيار ظهور مدرسة نقدية تتناول بالدراسة هذه الأعمال الجديدة وآليات كتابتها ومدى النجاح الذي تحققه لأهدافها فيرى جراهام هاجن في كتابه "ما بعد الإستعماري" رؤيته الخاصة أن هذه الأعمال قد تكون ضد الهدف من نظرية ما بعد الاستعمار بتقديم هذه الروايات على أنها تسلية غريبة. وقد يكون هذا الإنتاج محاولة لاحتواء عواقب النقد ما بعد الاستعماري الجامحة.
ومن أهم القضايا التي تناولتها نظرية ما بعد الاستعمار: قضايا الهجرة.. والشتات.. والمنفى بوصفها فئات مضمونية ونظرية واجتماعية وتاريخية ونقدية تستخدم لقراءة قصص القرن العشرين، كما في قصص مافيس جالنت القصيرة، وروايات روميش جونسكيرا، وجين اِير "رحلة في الظلام"، و"جامايكا كينكيد، وتوني موريسون وغيرها.
 ويرى إدوارد سعيد أن المنفي يقيم علاقة جدلية مع مفهوم الأمة التي تشغل موقعا مركزيًا في روايات الهجرة والشتات، ما ينتج ما يسميه تشارز تيلور سياسة الاعتراف التي تؤثر على إدراج المنفي في هوية قومية متماسكة، أو استبعاده منها.
وهناك روايات الشتات الإفريقي في دراسة جون. ج. سو في "موسوعة الرواية للقرن العشرين"، ويهتم بكتابات المغتربين الأفارقة مثل: بوتشي إيميتشيتا، و ج ف ديزاني، ودوريس لسنج، وسام سيلفون، وجورج لامنج.
كما أن هناك روايات المهاجرين من جنوب آسيا الذين عاشوا تحت الاستعمار البريطاني وانتهى أمرهم إلى أن يكونوا جزءًا من مجتمع الكومنولث الذى منحهم حرية الحركة في فضاء الإمبراطورية البريطانية في عقر دارها الأوروبي، وامتداداتها في كندا واستراليا ونيوزيلندا وسائر ما كان مستعمرات بريطانية امتدت حتى جنوب المحيط في القارة الأميركية في جزر الكاريبي، بل إن الإشكالية التي واجهها هؤلاء الكُتاب الذين خرجوا من رحم عصر الاستعمار هي أن المجتمع الأبيض اختلط من حيث العرق والجنس بالمستعمرات من السود والصُفر فصار، أدبهم يكتب بالإنجليزية بمشاعر في معظمها يعاني من مرارة وسطوة الموروث من عصر الاستعمار.