محمد حافظ رجب برق برقة واختفى

الستينيات من القرن الماضي لم تكن تقبل ما كتبه محمد حافظ رجب من تجاربه الطليعية من حيث جماليات الكتابة، وسعة الخيال، وجرأة الطرح.
الستينيات كانت عصر الرؤية الواحدة التي يسير فيها المجتمع كله
حركة التجديد التي أسسها محمد حافظ رجب استمرت تنحدر ككرة الثلج

لم تكن الستينيات من القرن الماضي – التي ظهر فيها محمد حافظ رجب – تقبل ما كتبه هذا الكاتب الشاب – في ذلك الوقت – من تجاربه الطليعية من حيث جماليات الكتابة، وسعة الخيال، وجرأة الطرح.
كما أن الستينيات كانت عصر الرؤية الواحدة التي يسير فيها المجتمع كله، وهي رؤية اجتماعية بامتياز، تسعى لحل إشكاليات وتناقضات المجتمع، والارتفاع بمستوى المعيشة، والأخذ بيد الطبقة الدنيا "رقيق الأرض أو البروليتاريا" بجميع أشكالها من زراعية أو صناعية أو خدمية. وكان الأدب المناسب لهذه الحقبة هو الأدب الأيديولوجي المدافع عن حقوق الأكثرية من الشعب.
والغريب أن هذه الظروف سمحت للمسرح أن يصنع هامشاً لامعاً للتجريب فيما عرف بمسرح الجيب الذي قدم لأول مرة مسرحيات من مسرح العبث أو "اللا معقول" عند "بيكيت" و"أونيسكو" والمسرح الملحمي عند "بْرِخْت" وغيرها من التجارب.

حركة التجديد استمرت في الأدب وإن كانت على استحياء طوال عقدين من الزمان على الأقل

أما في القصة القصيرة؛ فالتيار الغالب ظهوره في مطبوعات أو صحف فكان التيار الواقعي الاجتماعي. في هذه الظروف ظهر محمد حافظ رجب، ولم يكن واضحا في تلك الفترة أن هذا الشاب فتح آفاقا جديدة في الفن وأن أدبه وسع مساحة الحلم والابتكار، فسار الأدب في طريق الواقعية الاجتماعية، وهمّش محمد حافظ رجب ومن تختلف كتاباتهم عن التيار الغالب. 
والغريب أن ظهور محمد حافظ رجب أحدث هزة كبيرة واضحةً لدى المثقفين بمجرد صدور قصته "مخلوقات براد الشاي المغلي" في عدد القصة القصيرة الذي خصصه الراحل يحيى حقي لشباب الأدباء، وصار محمد حافظ رجب أيقونة التجديد في الفن إلى حد أنه شجعني على نشر قصصي التي كنت كتبتها في أوائل الستينيات وعرضتها على الراحل يحيى حقي فسمح لي – بكرم منه – أن أزوره في بيته واقرأ له عناوين القصص التي كتبتها، ثم قرأت عليه بعض القصص التي أعجبه عنوانها، وفي النهاية قدمني للنشر، ولكنه قال لي إن القصة يجب أن تكون بشرية، أما التجارب التي استعرت فيها مخلوقات غير بشرية، فلم يتحمس لها. 
لهذا شجعتني تجربة محمد حافظ رجب على نشر تجربتي في أواخر الستينيات. كانت أول مجموعة صدرت لمحمد حافظ رجب متضمنة القصة التي أشرت إليها عن الهيئة المصرية للـتأليف والترجمة والنشر بعنوان "الكرة ورأس الرجل" في سلسلة "كتابات جديدة". وأنطلق الشاب المجدد إلى الصفوف الأمامية حتى أنه أخذ مكاناً بالأهرام لفترة قصيرة قبل أن ينتصر تمرد الفنان على عقلانية الإنسان فترك كل شيء، وعاد إلى قلمه وأنكمش بعد أن انطفأت الأضواء وانفض السامر، وبَدَا محمد حافظ رجب شهابا برق برقة واختفي.
أما الحقيقة فهي أن ما كتبه هذا الشاب استمر في "جاليري 68" وفي تجربة إدوارد الخراط، الذي كانت ثقافته وعناده الإنساني تخترق حواجز الرفض والاعتراض حتى أكد ذاته وأدبه فيما صار يعرف بالحساسية الجديدة."

short story
ما كتبه هذا الشاب استمر في "جاليري 68"

وظلت السماء التي شقها محمد حافظ رجب تجذب مجموعة من الكُتاب وكتاباتهم، وإن لم يعلنوا التحدي لكل موروث كما فعل محمد حافظ رجب بصرخته الشهيرة – وربما الجارحة – نحن جيل بلا أساتذة. فالحقيقة أن محمد حافظ رجب أعاد الحياة لدور رمسيس يونان الفنان الرائد قلما وريشة، صاحب الأدب الطليعي أو لنقل "السيريالي" في الفن، بل إنه صار موحيا بتجارب فنية جديدة لبعض كبار الأدباء فى تلك الفترة نتيجة لضغط هذه الموجة الجديدة، فكتب توفيق الحكيم مسرحيتين قصيرتين نشرهما في الأهرام ووقع عليهما بقلم: "الأديب الشاب ق.م" وفك يوسف السباعي شفرة التوقيع قائلا "ق" هي الحرف الأخير من "توفيق" و"ميم" الحرف الأخير من "الحكيم".
وهكذا استمرت حركة التجديد في الأدب مستمرة، وإن كانت على استحياء طوال عقدين من الزمان على الأقل بالرغم من أن التجديد ظهر في أدب الرواية كما ظهر في أدب المسرح. بل إن نجيب محفوظ انطلق بروايته الحديثة التي بدأها باللص والكلاب، والسمان والخريف، والشحاذ، وثرثرة فوق النيل، وفي الوقت ذاته أو بعده بسنوات ظهرت تيارات جديدة في الرواية خارج مصر فكتب عبدالرحمن الربيعي في العراق "الأنهار" وكتب جبرا إبراهيم جبرا "البحث عن وليد مسعود" وكتب إسماعيل فهد إسماعيل "كانت السماء زرقاء" وكتب الطاهر وطار "اللاذ، وعرس بغل" وكتب سميح القاسم "إلى الجحيم أيها الملك"، ثم عادت الموجة إلى مصر عند صبري موسي فكتب "فساد الأمكنة" و"السيد من حقل السبانخ" و"حادث النص متر" وكتب محمد الراوي "الزهرة الصخرية" ومحمد جبريل "الصهبة". 
وهكذا استمرت حركة التجديد التي أسسها محمد حافظ رجب تنحدر ككرة الثلج، ولم يعد أحد يستطيع أن يتجاهلها لحساب تيار آخر أو اتجاه بعينه مهما كانت الدفوع والحيثيات.
[email protected]