عبدالناصر ورحلة الصعود من القاع

صورة ضبابية معتمة خاصة ونحن على مشارف الغروب، والأنوار مطفأة .. والطرق خالية من المارة بأمر حظر التجول.
عبدالناصر لفوزي في أمر صريح: نظف البيت من الذين احتلوه، وحاذر من العنف، فبالبيت أسرة
الرجال يراقبون قطعة بحرية ضخمة تقترب من مياهنا الإقليمية، وتخرج، ثم تدخل ولا تخرج

منذ أعلن مذيع القناة الأولى للتلفزيون أن الرئيس جمال عبدالناصر سيلقي كلمة على الشعب، لم يتوقف العقل عن التفكير.. والتخمين. ماذا سيقول الرئيس؟
الأمل.. يرى أنه سيعلن خبرًا مهمًا، ويفجر مفاجأة مدوية ويقول: "بعد أن واجهنا ضربات شديدة مركزة من العدو، نجحت قواتنا في كسر هجومه واختراقه ورده على أعقابه، وتوغلت وراءه حتى دخلت أرض فلسطين السليبة". هذا هو جمال عبدالناصر.. القائد والزعيم صانع المعجزات.
والخوف.. يعترض إلى حد اليأس ويقول: "الأمنية لا تتماشى أحلامها مع حالة غريبة نحسها ولا نراها. فالإعلام تحول خطابه الغنائي من (فارس يا أبو الفوارس) و(راجعين بقوة السلاح)، (اضرب اضرب) إلى "ولا يهمك يا ريس م الأمريكان يا ريِّس) إلى (بلدي أحببتك يا بلدي) و(وطني وصبايا وأحلامي).
صورة ضبابية معتمة خاصة ونحن على مشارف الغروب، والأنوار مطفأة .. والطرق خالية من المارة بأمر حظر التجول.
ما إن ظهرت صورته على الشاشة.. وأطل.. حتى انقبض قلبي وركبني الهم.. صورته الحزينة المنكسرة غير مألوفة.. وملامح وجهه المغلقة لم أعتد رؤيتها.. كان دائمًا فرحًا.. قويًا.. رائعًا يحملنا إلى أمجاد قابلة للتحقيق.. اليوم وجهه متهدل كأنه عاجز عن حمل جبينه.
حينما قال: "لقد أصبنا بنكسة".. تداعت إلى مخيلتي صورته قبل ست سنوات في يوم حزين سابق.. يوم فصلت قوات سورية الوحدة مع مصر في انقلاب عسكري.. يومها ظهر جمال عبدالناصر وقال: "لقد أصبنا بنكسة".. واليوم قالها، وتلا كلامه إعلان كارثي: "إنني أتنحى تمامًا ونهائيًا عن..." وأعلن... يا للمصيبة.. ماذا أفعل؟ ماذا نفعل؟ وما المصير؟ هل انتهى كل شيء؟ ناصر.. ومصر.. والعروبة.. وحلم الدولة الكبرى؟ وهل تقزمت أحلامنا إلى شيء اسمه (إزالة آثار العدوان؟) وهل أصبحت حدودنا مياه القناة من السويس إلى بورسعيد؟

لا يمكن.. خرج عبدالبديع من بيته القريب من الأزبكية.. ولم يوقفه كلام الخوف وحظر التجول. نزل يسابق درجات السلم في الهبوط ماشيًا إلى العتبة و26 يوليو وعابدين إلى باب اللوق. وأخوه الأكبر عبدالرحمن إلى جانبه يحدثه ولا يحادثه.. صمت كئيب نابع من صمت الشوارع التي كانت صاخبة بأمواج البشر والسيارات والتراموايات والأضواء المبهرة المبهجة. أمام مقهى الحرية على أسفلت الطريق الخالي في غبشة المغيب وقف أمامه جميل عطية إبراهيم، زميل قلم ومعاناة جيل، كأنهما على موعد ولم يكونا كذلك. وقف كل منهما أمام زميله ليس بينهما مسافة أكثر من نصف متر، وأصيبا بالخرس.. إحساس قوي بالإهانة والحزن والكآبة.. تقدم منهما ثالث: "أنا عبدالرحمن عرنوس".. هزا رأسيهما بتحية مقتضبة.. والعمل؟

تاريخ مصر
محمد فوزي

صمت مخيف
على البعد كانت سيارة نقل تحمل رجالًا.. جاءت من ظلمة ميدان التحرير متجهة نحو ميدان عابدين.. هكذا بدا اتجاهها، الرجال الواقفون عليها يهتفون.. سمعوها لأول مرة: "لا تتنحى". بعدها صارت أغنية لجماهير لا تعرف من أين جاءت وإلى أين تذهب.. امتلأ الجو بالهتاف.. أول انتفاضة تؤكد أن بالجثة نبض حياة.
بعودة عبدالناصر كانت مجموعة قرارات مفاجئة لاستعادة الدولة. "تعيين الفريق محمد فوزي قائدًا عامًا للقوات المسلحة وزيرًا للحربية".
بعد ربع قرن تكشف ما دار بين ناصر وفوزي حين استدعاه للمقابلة:
ناصر: هل تقبل أن تكون القائد العام للقوات المسلحة وتتحمل المسئولية الواقعة عليك؟
فوزي: أقبل 
ناصر: مطلوب منك أن تعيد تنظيم وتدريب وتسليح  وإعداد القوات المسلحة المصرية على أسس علمية، وتسلمها لي في ظرف ثلاث سنوات ونصف.. أربع سنوات على الأكثر، والعدو مش حيسيبك تعمل كده.. ومن هنا تأتي المهمة الثانية لك.. أن تكون مستعدًا لمواجهة العدو.
فوزي: مقبول.
ناصر: إذن، ابدأ وأطلعني على ما تعمل يوميًا.
فوزي: تمام.
***
الإسرائيليون يستحمون في مياه الفناة.. وبعض قواتهم تحاول اقتحام "رأس العش" الطريق إلى بور فؤاد.. تواجهها قوات مصرية بأسلحة خفيفة.. تحطم دباباتها.. وتجبر من بقي منها على التراجع. أول وقفة صد تهزم العدو.. وأول مواجهة.
في منزل المشير بالجيزة مجموعة من قادة يونيو يلتفون حوله رافضين ما حدث من تعيينات، مطالبين بحقهم في الاستمرار. تحول الالتفاف إلى رفض التغيير والعمل على عودة الأمور إلى سابق عهدها ما قبل يونيو/حزيران 1967.
كان عبدالناصر قال لفوزي إنه سيواجه محاولات إفشال من جانب إسرائيل. ولم يقل له إنه سيواجه رفضًا من الداخل.. من رفاق السلاح والوطن. كان من الواجب أن يتصدى فقضيته هي الوطن، أما قضيتهم فهي السلطة.. المناصب التي جعلتهم أمراء العصر وقادته.
لم يصدقوا الحقيقة، لم يتخيلوا أن التيجان سقطت يوم عادوا مهزومين.
لم يكن فوزي يتصور أنه سيضع سلاحه في وجه زملاء الأمس، بينما العدو رابض يرى ويستمتع بمشهد الانهيار، وأحجار البناء تتساقط.
قال عبدالناصر لفوزي في أمر صريح: نظف البيت من الذين احتلوه، وحاذر من العنف، فبالبيت أسرة.
أجاب فوزي بعد ساعات: تمام المهمة دون إراقة نقطة دم.
***
لم يعجب إسرائيل خطوات العمل.. قامت بحركة تحد جريئة. انتصرت في حرب خاطفة بطيرانها. واحتلت الأرض بجيشها البري، فهل تظل بحريتها هامشية؟ وكيف يكملون صياغة أسطورتهم الجديدة؟
الرجال يراقبون قطعة بحرية ضخمة تقترب من مياهنا الإقليمية، وتخرج، ثم تدخل ولا تخرج. واختار رجال البحرية التحدي. واجهوا الهدف.. كان مدمرة اسمها (إيلات)، وكانت مدمرة أخرى اسمها (حيفا). كانت معركة خاطفة.. اهتزت الأولى واحترقت وغرقت. واهتزت الثانية واحترقت وغرقت.. ودفنتا في قاع البحر. كان نصرًا يقول إن عسكرية مصر تنتفض طلبًا للثأر.
في المساء طلبت إسرائيل من الصليب الأحمر أن تسمح مصر لطائراتهم بالبحث عن جثث أو أحياء. كانت مصر نبيلة حتى مع عدو لا يعرف النبل.. سمحت مصر لهم أن يبحثوا عن أشلاء قتلاهم.
صراع إرادات.. هم يريدون لمصر أن تركع أو تيأس من أي مواجهة. اختاروا هدفًا مدنيًا يصنع دويًا.. كان الهدف معامل تكرير البترول بالزيتية بالسويس.. ضربوه بالطائرات انتقامًا لغرق المدمرتين.
لم يستسلم الفلاح والجندي والعامل والطالب والشاب والشابة والرجل والمرأة وكل من عاش تحت سماء مصر.

كانت الصحوة في اليوم التاسع من سبتمبر/أيلول التالي.. يوم أعلنت مدفعية مصر استئناف العمل والوجود. فاجأت العدو بحجم النيران وكثافته وامتداده.
جيل مختلف من الرجال يقفون في ساحة المعركة.. ينامون في حفرهم وهم في كامل يقظتهم.. جيل من شباب الجامعات صاروا جنودًا في جيش الوطن.. مهندسون.. معلمون.. أطباء.. كيميائيون.. علماء.. رياضيون.. كل من أنبتتهم مصر وأخرجتهم جامعاتها وتحصنوا بحب الوطن وفداؤه بأرواحهم.
مازال صراع إرادات.. تكسير طموح.. ضرب آمال.. تحطيم أحلام.. يقابله إصرار.
فجأة اقتحمت قوات العدو جزيرة (شدوان) واحتلتها.. هذا معناه أن صعيد مصر في مرمى ضرباتهم.. وكسر الرجال طموح العدو واستعادوا (شدوان) في 48 ساعة.. ولم يفكر العدو في إعادة المحاولة.
لتغطية حرجهم بدأوا عمليات "تلطيش" بضرب أهداف مدنية.. مدرسة الأطفال في بحر البقر.. مصنع أبي زعبل.. وكانت صيحة جاهين "الدرس انتهى لموا الكراريس" بكائية بمأساوية صوت شادية في تعبيره عن الحزن، وأغنية "إحنا العمال اللي اتقتلوا.. في المصنع في أبو زعبل".
وكان من الضروري أن تكون عملية تأديب وفرض إرادتنا على العدو.. الضرب في العمق.. البحرية المصرية.. تضرب وتغرق سفن العدو في مينائه الحربي في إيلات.. وتعلمه الألم.. ويقف قائدهم أمام استجواب برلمانهم المحتج على جرأة رجال مصر على اقتحام مينائهم فيجيبهم بتسلط وغرور:
"فعلنا كل شيء لحماية الميناء.. لن يجرؤ صرصار مصري على دخول الميناء.. أقمنا له ستارًا حديديًا يستحيل اختراقه. أضأناه بمصابيح كاشفة قاعه.. لن يجرؤا".
وجرؤ المصريون على دخول الميناء مرة ثالثة، وأغرقوا سفينتين تستعدان لضرب مصر.
اهتاجت إسرائيل.. تحول القلق عندهم إلى خوف.. استيقظت مصر وصار جيشها حيًا.
***
كان فوزي يضع كلمات جمال عبدالناصر نصب عينيه "العدو مش حيسيبك تعمل كده".. ويضع كلمات عدوه الأول موشى دايان أمامه في كل موقع يذهب إليه، "لن يقوم لمصر جيش قبل عشرين سنة". كلمات تتحدى.. ورجل يقبل التحدي.. كانت أعظم ملحمة صنعتها الوطنية المصرية معركة بناء حائط الصواريخ.. بتمامه تساقطت طائراتهم كالعصافير فكفوا عن محاولة الاختراق.
أدركت أميركا حرج حليفتها، فجاءت لنجدتها بمشروع روجرز لوقف القتال وتهدئة الجبهة. كان العدو يلهث ويريد التقاط أنفاسه، أما هدف مصر فأن تستكمل بناءها وتحركه إلى قواعد أمامية. وأعطى فوزي لناصر تمام انتهاء المرحلة. اطمأن عبدالناصر إلى أن الوطن لم يعد مستباحًا والصورة مبشرة وخطوات النجاح اقترب جناها. 
كان جمال بحاجة إلى الراحة فنام مطمئنًا.