السويد تكرم خليل عبدالقادر بفتح فضاءاتها له فيغزوها
حين اقترحت علي جريدة بينوسا نو (القلم الجديد) الصادرة عن الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد في سورية أن أقوم بإعداد ملف عن الفنان التشكيلي خليل عبدالقادر لم أتردد بالموافقة، ولم تساورني لحظات الصمت والوقوف للتفكير بالقرار، وجدت نفسي متحمساً لذلك، فخليل يستحق ذلك وأكثر، وهو من القامات التشكيلية الهامة لا في الجزيرة السورية فحسب حيث يشكل ضلعاً مهماً من أضلاعها إلى جانب عمر حمدي، عمر حسيب، بشار العيسى، صبري رفائيل، حنا الحايك، بهرام حاجو، زورو متيني، عزو الحاج، أحمد الأنصاري، حسن حمدان، يوسف عبدلكي، محمد أمين عبدو، برصوم برصوما، محمد صالح موسى .... إلخ، بل ضلعاً مهماً من المشهد التشكيلي السوري عامة وله حضوره الفاعل فيه، كان ذلك في أواسط 2015 وتم نشر الملف على جزأين في عددين متتاليين من الجريدة المذكورة، وبمشاركة الكثير من أقلام الأصدقاء من الكتاب والشعراء والنقاد، أسوق هذا الكلام وأنا مقبل على الكتابة عن مشروعه الكبير الذي يقدمه في مملكة السويد، فحين يحمل فنان بحجم خليل عبدالقادر 427 عملاً فنياً من المانيا متوجهاً بها إلى السويد ليعرضها في سبع مدن منها سيبادر إلى أذهاننا الصدى الذي سيخلقه هناك، وإلى أي مدى يستطيع أن يضج الأمكنة بها ويحرك ماءها، وإلى أي بعد يستطيع أن يمضي حتى يترك الأثر، وهذه الفعلة هي بحد ذاتها مغامرة، فلولا تجربته الطويلة والمثمرة والمختلفة، ولولا ثقته بتاريخه الفني ورحلته الطويلة الجميلة في هذا العالم وبريشته، ولولا جرأته التي يتحلى بها لما أقدم على هذا المشروع والذي أستطيع أن أقول عنه مشروع بدء الثورة الجمالية التي بها وحدها نستطيع أن نقدم ذواتنا للآخرين ونبين حقوقها المفقودة لهم، فخليل هنا وما يقوم به لم يقم به كل ساستنا التي لوثت حتى أرواحنا، لم يتركوا زاوية فينا لم يطلقوا عليها طلقاتهم المسمومة، يأخذوننا من مأتم إلى آخر، لا يمكن أن تجعلوا من أناس تنفسوا الشمس وتلحفوا السموات أن تقيدوهم في متر مربع من الصراخ والجعجعات والأقمشة التي خلقت لتكون أعمالاً فنية تنثر الحب والجمال والمعرفة في هذا الكوكب الصغير، لا إلى أكفان وبيارق لا دلالات لها إلا الموت والقتل، خليل بمشروعه هذا يرد على هؤلاء بمشروع فني جمالي وبأن إستخدام هذا الطريق أنسب وأكثر فاعلية من الذي يرسم ويمسرح على الأرض بإخراج لكائنات لا علاقة لهم بنا إلا بما نعصر وترطب حلوقهم، أو بما يملأ جيوبهم، مهما كان الطريق إلى ذلك يحتاج إلى أرواح ودماء، فكل قطرة منها، كل شهقة منها تعادل كل الأكاذيب التي ترسم في الهواء، هذا الإستطراد يحضرني وأنا أجد أن هناك لغة لها قيمتها قادرة على التعبير وإيصال كل ما نبغي إليه بها وبها أيضاً تجمل الطرق وتقرب الخصوم قبل الأصدقاء، لغة تجعل من الحياة قيمة تستحق أن تعاش وأن تبنى، ومهما كانت الإختلافات فبمقدورها أن تقر بوجود الآخر مهما كان لونه أو دينه أو جنسه، أو نمرة رجله، ويقولها خليل في أعماله وفي تصريحه لإحدى الوسائلة الإعلامية التي كانت تقوم بتغطية المشروع: "ليست بالحرب وحدها تؤخذ الحقوق، بل بالفن" وهذا هو الأكثر قوة والأكثر فاعلية والأكثر تعبيراً، وهي مقولة تكاد تلخص هدف مشروعه هذا، بل هدف الفن والإبداع برمته، وهي أنجع وسيلة وأرقى لغة في بناء الإنسان والأوطان.
كانت الإفتتاحية في مدينة ساندفيكن السويدية بتاريخ 23-4-2022 بعرض 137 عملاً وبحضور نخبة من أصدقاء الفنان ومحبيه الذين قدموا من دول أوربية عدة ليشاركوه الفرحة في رفع منسوب النجاح لهذا الإنجاز الكبير كجوان حاجو وجوان فرحان والعائلة الموسيقية وليد حموتو وملك مختار وعلي شير والمغنية السويدية Amanda örtenhag وآخرين، وبحضور جمهور كردي وسوري وسويدي مع الكثير من وسائل الإعلام المختلفة، تابعت مجريات الإفتتاح على البثات المباشرة التي كانت تطلق من محبيه، وكنت أجد علامات الرضا والفرحة عليهم جميعاً وإن كنت أقرأ خليل وكأنه كان يبحث عن شيء ضاع منه، أو عن أحد ما لا مبرر لغيابه أو غيابها، فكان المفروض أن يكون موجوداً، كأنه كان يبحث عن جزء منه سقط سهواً أو رغماً بين ألوانه وتاهت فيها، لكنه على يقين بأنه / بأنها حاضر / حاضرة بكل قوة وفي كل ركن من المكان فهذا الشيء يسكن في الأعمال بعمق وتمايز، وفي قلبه بكل نبض، كان خليل يتنقل بين زواره بطقمه الأبيض الكلاسيكي وقبعته التي باتت جزءاً منه وكأنه خارج من إحدى الأساطير القديمة ليروي لنا رحلة نصف قرن وربما أكثر، ليروي لنا مشاهداته وآرائه وأفكاره عن الحقائق المرة، ولا يشغله كل بهرجات العالم، فإندفاعاته وكل جوانب ذاته الخاصة هي التي كانت تمتد بهويتها، برغبتها الحرة، وبتعبير آخر كان خليل ينغمس في مناجاة طويلة حين يرى الجمهور وهو يدلف إلى داخل المكان، فكان بإمكانه أن يضعهم بشخصياتهم المختلفة داخل مؤثراته وفعلها كثيراً، ويصعب الإحاطة بكل زوايا الحالة هنا، وحدها الإضاءة واللون وحركة الشخوص والموسيقا تكون إيقاعات للتعبير دون أخذ الإعتبار لإستجابات الجمهور المختلفة للمشهدية التي يخلقها ويديرها بثقة وإحتراف.
خليل عبدالقادر حمل نسائه اللواتي خلقهن على إمتداد نصف قرن وأكثر ليقدمهن دفعة واحدة نحو محاورات هي بمنزلة روحه التي تننبض فيهن، وبدرجة ما فهو لا يضلل متلقيه بهن بل يدفع بهن نحو الضوء وهن يسردن لذلك المتلقي بفيض من أوجاعهن وأفراحهن، عن آلامهن وآمالهن، عن حبهن وعشقهن، عن جمالهن وخيباتهن، ويعرض لبعضهن بالتفصيل ما يقربهن من ذواتهن وهذا لا يكفي لإطفاء عطشهن الظامىء إلى المعرفة والحرية والحياة بعد كسر النطاق الذي ولدن فيه، فهو أقصد خليل يكرس معظم طاقته لهن لإستكشاف حياتهن وهن يمضين من العتمة إلى الضوء وكأنهن من القساوة بأنماطها المختلفة، يشار إليهن بما يمتلكن من سمات تشكل أحجار بنائهن في الإدراك عامة والإدراك الفني خاصة، كما أن الجوانب الخاصة لكل منهن تكاد تشكل الموضوعات التي تجعل المتلقي حساساً لهن وهذه مهمة للوصول به إلى ذلك الإدراك الجمالي وإبراز حساسيته للألوان والقد والإتجاهات، وهذا الأسلوب الإستكشافي مرتبط إلى حد ما بسلوك التذوق الجمالي ذاته والذي يتم ربطه بحب الإستطلاع وما يتبعه من الدرجات المنخفضة منها أو المرتفعة تبعاً لتلك الألفة بين مفرداتها أو غرابتها، وإن كان لدى خليل ميل كبير لإظهار إنطوائيتهن مهما كانت اللحظة التي يعشنها وبغض النظر إن كانت هذه اللحظة مفرحة أو محزنة، حتى وهن يتأملن أو يرقصن، مع بعض التعديل في ضوء تصوراته هو، ويتسم هنا أسلوبه بالتعبيرية غير التقليدية والتي تفضل بشكل خاص قيم العطف ويؤيده على ذلك الإتزان التام لجوهر التكوين الفني، مع عدم الإرتباط بالمسايرة الإجتماعية والطقوس، فنزعاته غير التقليدية في التفكير والسلوك تمنحه بالضرورة خصائص شكلية لعمله الفني وهذه وحدها كافية لحدوث التذوق وإن كان عالم الفن ليس مفتوحاً للجميع، لكل فرد جهده في الفهم والتذوق، وله سماته الشخصية والمعرفية للخروج بتلك التفضيلات الجمالية الكثيرة، والخلاصة التي قد نتوصل إليها بأن خليل يملك وسيلة تعبير تتسم بالمعارضة والتمرد والخروج عن المألوف ويظهر ذلك في تكويناته قبل إظهاره في ملابسهن وطريقة تصفيف شعرهن ومبالغاتهن في الأداء والحركة وغير ذلك من الخصائص الفرعية، الخلاصة التي تقول بأن خليل خلقهن قبل نصف قرن وأكثر وهن بأكثر ملامحهن وضوحاً حتى بتن دونها وهن على مشارف الخمسين وربما تجاوزنها أيضاً، فشخوصه فقدن الكثير من تلك الملامح حتى تهن فيها وتلاشت تماماً، فخليل لا تخذله ذاكرته، لا البعيدة منها ولا القريبة، كما لا تخذله نساءه حين يطلب منهن الخروج إلى السطوح، فيحضرن وكأنهن قادمات من أساطير الأولين رغم يقيني أنهن تلبدن بشظايا خليل وأسطورته الخاصة، لكنهن رغم ذلك فهن متمردات عليه، وحدهن يتحكمن بطرائق تعالقاتهن وتشابكاتهن نحو بناء دلالاتهن المنشودة، والتي بدورها تضعنا في حضرة الأبعاد التي تنهض النص لإبتنائها، فتتوالد الصور وتتعالق فيما بينها لتبتني المشاهد التي تتولى إبتناء دلالات النص .
ما يقدمه الآن خليل لا أسميه معرضاً ولا حتى مجموعة معارض، بل مشروعاً فنياً يخصنا بقدر ما يخصه هو، وأتمنى أن نجد وهو معنا ليكون هذا المشروع صرخة لمشروع آخر وهو تأمين مكان كبير يعرض فيه منجزه ونساءه وأعماله جميعاً والتي تفوق الألف في مكان واحد تكون بمثابة تحقيق حلمه وتحقيق حرصنا على هذا الأرث ليبقى على مدار عمر وتاريخ، فهل ستصحو الأحاسيس الجمالية والضمائر الإنسانية لمن يملكون الإمكانية في تأمين ذلك وتحقيق هذا الحلم الذي سيبقى كمتحف تضم أعماله وكل ما تخصه وهذا أجمل وأكبر تكريم من الممكن أن نحققه لفنانينا وهم بيننا، أن نقدمه لهم وهم ينبضون في أرواحنا .
خليل عبدالقادر ولد في قرية حسي أوسو التابعة لعامودا عام 1955، نزح مبكراً منها إلى الحسكة ليعيش فيها أكثر حياته قبل خروجه منها إلى أوروبا وتحديداً إلى المانيا قبل عقود ثلاث وربما أكثر، قدم معرضه الأول في مصياف عام 1975، من الفنانين القلائل الذين يتنفسون الفن ويعيشون به وفيه، فرغم السن (يطول الرب بعمره) والمرض الذي يلاحقه إلا أنه مازال يقفز أمام لوحته كشاب في مقتبل العمر، وجدناه عاشقاً وهو يداعب مفاتن فضاءاته بريشه حين قرر أن يرسم عملاً مباشراً أمام الجمهور كإحدى فقرات برنامجه الذي اغتنى بوصلات موسيقية سويدية وكردية لأسماء باتت معروفة على إمتداد الجهات، نعم بدا عاشقاً بكل مشاعره حين هب في ليلة الدخلة أقصد في الإفتتاح مشمراً عن أحاسيسه وبدقائق يخرج لنا بلوحة تتحدث عنه طويلاً وعن نسائه كثيراً، لوحة تنبض بعطر خليلي، العطر الذي سيبقى فواحاً طالما بقيت الأمكنة باقية ونابضة.