السيّاب مجندا في الحرب الباردة!

سيكون من الخطأ القول إنّ الشاعر العراقي تطوّع تلقائيًا في الحرب الباردة.لكن القول إنّه تمّ تجنيده بسبب الظروف الصعبة وعدم وجود خيارات أفضل.

يعدّ كتاب "شعراء الحرب الباردة" واحداً من أخطر الكتب الصادرة مؤخراً، كونه يفجّر كثيراً من المفاجآت التي تخصّ شعراء ومثقفين عرب استطاعت المخابرات الأميركية تجنيدهم لصالحها خلال الحرب الباردة بينها وبين الغريم الاتحاد السوفيتي منذ خمسينيات القرن الماضي وما تلاها من سنوات.

الكتاب الذي صدر عن دار المأمون للترجمة والنشر يضم مجموعة مقالات قام بترجمتها المترجم جمال جمعة وجاء بأكثر من 200 صفحة من القطع الكبير، وأفتتح الكتاب بكلمة للناشر جاء فيها "أدركت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عند صراعها مع أطراف قوية أن الحرب الباردة أقل كلفة من المواجهة العسكرية، لأن خسائرها أقلّ، ومكاسبها أكثر ،وتأثيراتها أعمق، وتطلبت هذه المواجهات غير المباشرة زعزعة معتقدات العدو وتهشيم قواعده الفكرية من خلال تجنيد المثقفين، سواء علموا بذلك أم لا، وكان من بين هؤلاء الذين جندتهم المخابرات الأمريكية مجموعة بارزة من خيرة الأدباء العرب ومثقفيهم".

المقال الأول في الكتاب كان بعنوان "الخبز أو الحرية" للكاتبة اليزابيث م . هولت وفيه تكشف الكاتبة ساعة الصفر عام 1950 التي أعلن فيها عن استحداث ما يسمى "المنظمة العالمية لحرية الثقافة" من قبل وكالة المخابرات المركزية الأميركية وجعل باريس مقراً لها، وذلك لتكون رداً على "الكومنفورم السوفيتي" الذي تأسس عام 1947 في العاصمة التشيكية بلغراد.

تشرح هولت في مقالها كيف جنّدت المخابرات الأمريكية المثقفين العرب حيث تقول"كان توفيق صايغ رئيسًا لتحرير مجلة "حوار"، البؤرة الاستعمارية العربية للمنظمة العالمية لحرّية الثقافة في بيروت، لتنضمّ إلى شبكة متنامية من مجلّات المنظمة، بما في ذلك مجلة "إنكاونتر" في لندن، "ترانزيشن" في كامبالا، "كويست" في بومباي، و"موندو نويفو" المكرّسة لأدب أميركا اللاتينية التي تتخذ من باريس مقرًا لها. سعت "حوار"، وهي مجلة موّلتها المنظمة العالمية لحرية الثقافة، وبتمويل من وكالة المخابرات المركزية بطريقة غير مباشرة، إلى استمالة الطليعة العربية، إذ عرضت على الأدباء تعويضًا ماديًا على كتاباتهم، فضلاً عن الحريّة الثقافية التي يسبّحون بحمدها ليلَ نهار".

هولت لم تتوقف عن هذا الحد من الكشف الأولي لخطة المخابرات الأميركية ولم تكتف بالإشارة الى المطبوعات أو المجلات التي تصدر بتمويل منها بل تحدثت بوضوح عن أهم الأسماء الأدبية التي تمّ تجنيدها، سواء كان بعلمهم أو بسقوطهم في الفخ الذي نصب لهم حيث تقول "على مدار خمس سنوات تقريبًا، نشرت مجلة "حوار" لأدباء ناشئين وراسخين، لتكون بمثابة ديوان لبعض  المؤرّخين، والنقّاد، وكتّاب القصص القصيرة، والروائيين، والشعراء العرب المهمين الذين كانوا يكتبون في ستينيات القرن الماضي، بما في ذلك بدر شاكر السّياب، غادة السمّان، ألبرت حوراني، جبرا إبراهيم جبرا، سهير القلماوي، وليد الخالدي، سمير خلف، زكريا تامر، ليلى بعلبكي، صلاح عبدالصبور، سلمى الخضراء الجيّوسي، صبري حافظ، لويس عوض، إبراهيم منصور، إبراهيم أصلان، فؤاد التكرلي، الطيب صالح، ويوسف إدريس".

أسماء الأدبية التي تمّ تجنيدها، سواء كان بعلمهم أو بسقوطهم في الفخ

المقال الثاني الذي ضمه الكتاب جاء صادماً، كونه يتحدّث عن أيقونة أدبية عراقية وعربية، حيث جاء المقال الذي كتبه الكاتب الفرنسي إليوت كولا تحت عنوان مفاجىء "بدر شاكر السيّاب شاعر الحرب الباردة" والكتاب يؤكد بعض ما ذهب اليه الأدباء الشيوعيين من أن السيّاب ما كان لينشر مقالاته المعادية للشيوعية لولا حصوله على مردود مادي من جهات إمبريالية، ويقصدون سلسلة كتاباته المعنونة "كنت شيوعياً" حيث أن كولا يشير مباشرة الى أن تلك المقالات كانت بعد أن صار السيّاب مقرباً من المنظمة الأميركية التي تتبع مخابراتها حيث يقول الكاتب "حاولت كتابات السّياب تصفية حسابات شخصية، وإفشاء أسرار محرجة، لكنها فعلت أكثر من ذلك ـ فقد عملت على غرس راية السّياب في ظلّ حرب باردة محلية بقدر ما كانت عالمية. وبالفعل، فقد نشرت في ظل علاقة السّياب الناشئة مع المنظمة التي كانت واجهة لوكالة المخابرات المركزية، المنظمة العالمية لحرية الثقافة. "كنتُ شيوعيًا" هي أكثر من مجرد وثيقة رئيسية في خضم المدّ والجزر السياسي المتغّير في العام 1959؛ كما أنها عمل أدبيّ نقدي كذلك، وفي الواقع هي العمل النثريّ الرئيسي الوحيد لواحد من أهم شعراء الحداثة في العراق".

ولا يتوقف كولا عن ترسيخ فكرة أن السيّاب وبحكم ظروفه الصعبة والأحوال المعاشية السيئة كان صيداً سهلاً للمنظمة المخابراتية حيث يقول "كان السياب يعيش الحياة بالكاد على هامش المجتمع العراقي. عاطل عن العمل ويتعرض للهجوم، كانت تلك أوقاتًا عصيبة للسّياب وأثّرت في إبداعه وما يثير الذهول أكثر هو أنّ مقالات السّياب تكشف عن مثقف مجاهر في الحرب الباردة، ومستعد تمامًا لإقحام نفسه في صفوف الجبهة الليبرالية المناهضة للشيوعية التي انبثقت آنذاك في جميع أنحاء أوروبا الغربية. في الواقع، يرصف السّياب بشكل صريح في المذكرات، تجاربه الخاصة في الحزب الشيوعي العراقي".

يذهب الكاتب بعيداً في التأكيد على أن بدر شاكر السيّاب تواصل خارج حدود العراق مع المنظمة الأميركية، حتى وأن كان التواصل حينها غير مباشر، أو أن يكون الحدث نفسه مدبراً ومن دون علمه، حيث يقول " في أواخر العام 1961، كان على بدر شاكر السّياب أن يسافر إلى روما للمشاركة في مؤتمر بعنوان "الأديب العربي والعالم الحديث". وكان الحدث برعاية المنظمة العالمية لحرية الثقافة (IACF)، ذات المنظمة التي كانت تعرف حتّى وقت قريب باسم "مؤتمر الحريّة الثقافية" (CCF) حتّى كُشف عن روابطها المالية والتنظيمية مع وكالة المخابرات المركزية".

وحتى يسترسل في التأكيد على أن السيّاب لديه علاقة سابقة مع تلك المنظمة الأميركية يؤكد الكاتب على حادثة مهمة مرت بالسيّاب قبل ذهابه الى مؤتمر روما، بل ويريد القول أن السيّاب تعرّض لإغراءات عدة تتلخص في الدراسة المجانية خارج العراق حيث يقول "حتّى قبل هذا الحدث كان المشرف على الحفل، جون كلينتون هانت (الأمين العام للمنظمة العالمية لحرية الثقافة) قد عرض بالفعل على السّياب زمالة للدراسة في بريطانيا. في الأشهر التي تلت روما، حاول السّياب متابعة العرض، مراسلاً ألبرت حوراني والمستعرب روبرت ب. سرجينت بشأن إمكانية الدراسة في أكسفورد أو مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية (جامعة لندن)".

في زاوية أخرى من الكتاب كانت هنالك خلاصة لما يراد تأكيده، حيث نجد رأياً للكاتب يرى فيه أن السيّاب لم يتقصّد الدخول في علاقة مع هذه المنظمة، ولم يقدم أوراق إعتمادة كجزء من تلك المنظومة المعادية للشيوعية، ولكنه كان تحت طائلة الحزن من بعض مواقف الشيوعيين، وكذلك كونه يعيش حالة من الفقر والعوز، لكن الكاتب يبقى مصراً على أن السيّاب كان سعيداً بما يقدمه لتلك المنظمة حيث يقول "سيكون من الخطأ القول إنّ السّياب تطوّع تلقائيًا في الحرب الباردة. إذا استعرنا تنظيرات ديفيد سكوت للخيارات غير الحرّة للعالم الاستعماري، سيمكننا القول إنّ السّياب تمّ تجنيده في الحرب بسبب الظروف الصعبة وعدم وجود خيارات أفضل. ومع ذلك، فإنّ مراسلات السّياب في تلك الفترة تشير إلى أنه كان واعيًا تمامًا للوظيفة التي كان يؤديها، وأنه في بعض الأحيان يستمتع بها أيضا. في رسائله من تلك المدّة، على سبيل المثال، لا يتردد السّياب في الإعلان بصوت عال عن أوراق اعتماده المعادية للشيوعية، أو الاحتفال بالقمع الدّموي الذي تعرّض له الحزب الشيوعي العراقي بعد إطاحة البعثيين بقاسم عام 1963".