السيَّاب بريشة سيف وانلي

صورة الفنان التشكيلي المصري في مجملها، رغم تجريديتها، لا توحي بأننا أمام شاعر في مقتبل الحياة، وهي توحي أيضا أننا أمام شاعر يجلله الصمت والسواد، وأنه يستعد للرحيل عن الحياة بلا ألوان.

يعد الشاعر العراقي بَدْر شَاكِرٍ السَّيَّاب (1926 - 1964)، المولود في قرَية جِيْكُور بمحافظة البصرة في جنوب العراق، واحدًا من أشهر الشعراء في الوطن العربي في القرن العشرين، وأحد مؤسسي الشعر الحر في الأدب العربي.

توفيت والدته عندما كان عمره ست سنوات، وكان لوفاتها أعمق الأثر في حياته.

تخرج في دار المعلمين العالية ببغداد متخصصًا في اللغة العربية عام 1948، ثم درس اللغة الإنكليزية وأجادها وترجم عنها. وعُرف بنضاله الوطني في سبيل تحرير العراق من الاحتلال الإنكليزي، وفي سبيل القضية الفلسطينية.

وبعد أن أُسندت إليه وظيفة تعليم اللغة الإنكليزية في الرمادي، فُصل منها بسبب ميوله السياسية وأودع السجن. ولمّا رُدّت إليه حريته اتجه نحو العمل الحر ما بين البصرة وبغداد كما عمل في بعض الوظائف الثانوية، وفي سنة 1952 اضطُر إلى مغادرة بلاده والتوّجه إلى إيران ثم الكويت، وذلك عقب مظاهرات اشترك فيها. وفي سنة 1954 عاد الشاعر إلى بغداد ووزّع وقته ما بين العمل الصحافي والوظيفة في مصلحة الموانيء.

لكن الشاعر لم يأنس ولم يتكيّف مع مدينة بغداد، وظل يحنّ إلى قريته جيكور التي ولد فيها. وعندما عاد إليها وجدها قد تغيرت، فحاول أن يبعثها من خلال ذاته ويتغنى بها في قصائده.

في سنة 1962 أصيب بألم في ظهره، أعقبه شلل، وأُدخل مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت، ثم عاد إلى البصرة ثم ذهب إلى الكويت لتلقي العلاج في المستشفى الأميري ولكنه توفي هناك في 24 ديسمبر عام 1964 عن 38 عاماً ونُقل جثمانه إلى البصرة وعاد إلى قرية (جيكور) في يوم من أيام الشتاء الباردة الممطرة.

يقول عنه الناقد د. إحسان عباس: "بدر شاكر السياب غلام ضاوٍ نحيل كأنه قصبة، رُكب رأسه المستدير، كأنه حبة الحنظل، على عنقٍ دقيقة تميل إلى الطول، وعلى جانبي الرأس أُذنان كبيرتان، وتحت الجبهة المستعرضة التي تنزل في تحدّب متدرّج أنف كبير يصرفك عن تأمله أو تأمل العينين الصغيرتين العاديتين. على جانبيه فم واسع، تبرز الضبة العليا منه ومن فوقها الشفة بروزاً يجعل انطباق الشفتين فوق صفَّي الأسنان كأنه عمل اقتساري وتنظر مرة أخرى إلى هذا الوجه الحنطي، فتدرك أن هناك اضطرابًا في التناسب بين الفك السفلي الذي يقف عند الذقن كأنه بقيّة علامة استفهام مبتورة وبين الوجنتين الناتئتين وكأنهما بدايتان لعلامتي استفهام أُخرَيَيْن قد انزلقتا من موضعيهما الطبيعيَّيْن".

وكأن إحسان عباس يرسم لنا بورتريهًا لفظيًّا أو بالكلمات لبدر شاكر السياب مركزًا فيه على ملامح الوجه وتفاصيله الدقيقة. تلك التفاصيل التي أخذها الفنان التشكيلي المصري سيف وانلي ورسمها في اسكتش خاص، أو دراسة خاصة بالحبر الشيني، بالشاعر، وأمهرها بتوقعيه أسفل الدراسة seif. ولكن الفنان لم يكتب تاريخ رسم هذا الاسكتش بجوار توقيعه، وهل كان بعد وفاة الشاعر (أواخر 1964) أم قبل الوفاة؟ وقد لاحظنا أن هذه العجالة رُسمت بالحبر الشيني على ورق كراسة مسطر، وأنه استلهم هذا الرسم وتلك الخطوط الطولية – وخاصة عند الأنف - من خلال صور أخرى نُشرت للشاعر، بينما تمثلت الخطوط العرضية الكثيفة في الحاجبين شبه المقوسين، وفتحتي العينين الناظرتين إلى الأسفل وبالتالي غياب الضوء عنهما، والشارب الخفيف. أما الشَّعر الأسود فقد حرص الرسّام أن يكون مثلثًا رأسُه في الأمام، وقاعدتُه في الخلف، لإبراز شيء من صلعة الشاعر على الجانبين، مع تظليل الشَّعر فوق الأذنين، رغم أننا نشاهد أذنًا واحدة، هي الأذن اليسرى للشاعر، بينما اختفت الأذن اليمنى تماما من المشهد، فلم يعد الشاعر حريصًا على السماع وهو يقترب من نهايته. والصورة في مجملها – رغم تجريديتها - لا توحي بأننا أمام شاعر في مقتبل الحياة، فالحواس شبه معطلة، واستقبال الحياة شبه متوقف، وهي توحي أيضا أننا أمام شاعر يجلله الصمت والسواد، وأنه يستعد للرحيل عن الحياة بلا ألوان. وحوار الأبيض والأسود في خطوط وانلي أشبه برثاء للشاعر. خاصة أن وانلي كان يرى أن اللون الأبيض جاء في البدء، ثم جاء اللون الأسود والأحزان.

لم يعتمد الرسام على أي لون آخر في عجالته، ويبدو أنه رسم تلك العجالة فور تلقيه خبر وفاة الشاعر الذي كان يسمع عنه، وربما قرأ له أشهر قصائده وهي "أنشودة المطر" فتركت بدورها بصماتها على الرسّام:

وَكُلَّ عَامٍ حِينَ يُعْشُب الثَّرَى نَجُوعْ

مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ

سيف وانلي بريشته
سيف وانلي بريشته

لقد كان سيف وانلي – كما يرى الفنان مكرم حنين - يمتلك ملكة تصوير الاسكتش، وأيضا التكوين السريع دون الاهتمام بالقيود الأكاديمية فى التنفيذ.

كان وانلي فنانًا مثقفًا وعلى علاقة جيدة بشعراء وكتاب وفناني عصره، فكان يزرو مرسمه على سبيل المثال الشاعر أحمد زكي أبوشادي الذي أطلق على المرسم أو الاستوديو الخاص بالشاعر وأخيه أدهم وانلي مسمى "المحراب"، وكانت تدور فيه المناقشات حول الفن والموسيقى والشعر. وكثير من أدباء مصر وشعرائها وفنانيها كانوا دائمي التردد على منزل وانلي من أمثال أحمد شوقي وإسماعيل صبري، وعبده الحامولي، وداود حسني.

وقد رسم وانلي – على سبيل المثال - شخصيات رواية "المرايا" لنجيب محفوظ وعددها 55 شخصية أثناء نشرها في مجلة الإذاعة والتلفزيون عام 1971. كما نراه يرسم بورتريهات لبعض مشاهير عصره، ومنهم الشاعر بدر شاكر السياب.

وعلاقة السياب بمصر علاقة قوية فقد كان متأثرا بالشاعر علي محمود طه (1901 - 1949) فترة من الزمن، وعن طريقه تعرف على آفاق جديدة من الشعر حين قرأ ترجمات طه للشعراء الإنكليز والفرنسيين. كما نشر السياب شعره في بعض المجلات المصرية ومنها مجلة "الشعر" التي كان يرأس تحريرها الناقد د. عبدالقادر القط، والتي أبَّنته بعدما رحل الشاعر في نهاية عام 1964.

وفي عددها الصادر في فبراير/شباط 1965 قالت مجلة الشعر المصرية: "فقد الشعر العربي الحديث علمًا من أعلامه، وموهبة كبرى كان يرجى منها الخير العظيم لو امتد بالشاعر الأجل، ذلك أن الشاعر بدر شاكر السياب يجئ في مقدمة الشعراء الذين أثروا الحركة الشعرية الأخيرة، والذين أدخلوا على القصيدة العربية مذاقًا جديدًا، يتمثل بعضه في الأخذ بالمنهج الأسطوري، ويتمثل في استعمال الرموز استعمالا يدخل في صميم التجربة، كما يتمثل في الاهتداء إلى الحقائق الكونية الكبيرة، والاحتكاك بها مثل حقيقة الموت. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان يبني بالصور تجارب جديدة لم يعشها شاعر عربي مثله في الفترة الأخيرة، أدركنا أنا فقدنا شاعرًا أعطى للشعر أكثر مما أعطى له الشعر، وأعطى الحياة أكثر مما أعطته الحياة، وأنار بظلاله الوريفة، والحزينة في الوقت نفسه على الحياة الشعرية المعاصرة".

من أعمال بدر شاكر السياب الشعرية نذكر: أزهار ذابلة - أساطـير - حفار القبور- المومس العمياء- الأسلحة والأطفال - أنشودة المطر - المعبد الغريق - منزل الأقنان - أزهار وأساطير - شناشيل ابنة الجلبي -  قيثارة الريح – أعاصير، وغيرها.

أما الفنان سيف وانلي (1906 – 1979)، فهو محمد سيف الدين إسماعيل محمد وانلي من مواليد الإسكندرية. عمل أستاذًا لفن التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عند إنشائها صيف 1957 ومستشارًا فنيًّا بقصور الثقافة بالإسكندرية. كما كان رئيسًا للجمعية الأهلية للفنون الجميلة. ويعتبر هو وأخوه الأصغر أدهم وانلي من أشهر الفنانين التشكيليين في مصر. وكان مرسمهما مزارا للفنانين والمثقفين لأكثر من 40 عاماً حتى بعد وفاة أدهم (1959) واستمرار سيف في مسيرته الفنية. ولهما متحف باسميهما في مركز محمود سعيد للمتاحف بمنطقة جناكليس بالإسكندرية.

درس سيف وانلي الفن في مدرسة حسن كامل عام 1929 (والتي سميت فيما بعد الجمعية الأهلية للفنون الجميلة بالإسكندرية). ثم كان هو وأخوه الأصغر أدهم وانلي أول تلميذين ينتظمان في مرسم الفنان الإيطالي أتورينو بيكي يوم افتتاحه في 9 أكتوبر عام 1930، وبعد رحيل بيكي افتتحا مرسمًا خاصًّا لتعليم الرسم في 18 يونيو/حزيران 1935.

لسيف وانلي أعمال ولوحات ببعض الفنادق في القاهرة والإسكندري، ووزارة الخارجية الإيطالية بروما ومحطة الركاب بميناء الإسكندرية. كما صمم الكثير من ديكورات المسرح مثل مسرحية شهرزاد وأوبريت كارمن. وله آلاف اللوحات بألوان الزيت والجواش والفحم وبمواد أخرى صور فيها الكنائس والشوارع والمقاهي والحدائق وسباق الخيل والسيرك والألعاب الرياضية والمنتديات العامة والحياة الفنية التي مرت بمدينة الإسكندرية.

فاز سيف وانلي بالجائزة الكبرى في بينالي الإسكندرية عام 1959، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1973 . كما حصل على الدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون في أكتوبر/تشرين الثاني 1977.