الشرق الأوسط بين وارسو وسوتشي

فوضى الشرق الأوسط أكبر من ان ينظمها مؤتمر في وارسو او ترتيبات استثنائية في سوتشي.

يبدو الشرق الأوسط اليوم في أدق الظروف حساسية لجهة الشد والجذب الإقليمي والدولي القائم، وبخاصة بعدما تجمعت ابرز عناصر ووسائل إعادة التشكيل لأكثر المناطق التهابا في العالم. فثمة مناسبتان أساسيتان عقدتا في وقت متزامن مؤتمر وارسو وقمة سوتشي، إضافة إلى مؤتمر دبلن الذي سيكون كتعويض دبلوماسي للجانب الفلسطيني لاحقا.

الأول مؤتمر وارسو الذي حضره مندوبون عن ستين دولة بينها دول شرق أوسطية عربية وغير عربية، والذي شكل انعطافة فارقة في مسارات إدارة أزمات الشرق الأوسط المتداخلة، كما شكل عدم التوافق الأوروبي على الطرح الأميركي إلى إعادة عنّونة أولوياته ورؤاه المستقبلية، وهذا ما ظهر عمليا في مستويات التمثيل والخطابات التي ألقيت فيه. فواشنطن التي سعت إلى توجيه المؤتمر وتصويبه باتجاه إيران، إلى جانب القضية الفلسطينية وصفقة العصر، واجهت ضغوط أوروبية واضحة مردها تباين المصالح وعدم تقاطعها في الملف الإيراني مثلا، فيما الموضوع الفلسطيني شهد تبدلات واضحة لجهة اللقاءات العربية الإسرائيلية، والتي إن بدت عابرة فهي تؤسس لاصطفافات جديدة مستقبلا رغم عدم مشاركة الفلسطينيين في المؤتمر، والتي استعيض عنها بلقاء فلسطيني موسع في موسكو وبرعايتها لإعادة لملمة التيارات الفلسطينية ومحاولة توحيد مواقفها في ملفات عدة ذات صلة بما طرح في وارسو.

في المقابل، كان لقاء القمة الثلاثي الذي عُقد برعاية روسية في سوتشي وضم كل من تركيا وإيران، والذي ظهرت فيه الأزمة السورية وبعض ملفاتها في الواجهة عمليا، وهي في حقيقة الأمر رد واضح على مؤتمر وارسو الذي اعتذرت موسكو عن حضوره فيما لم تدع طهران بطبيعة الأمر، أما التدقيق في مضمون اللقاء وما رشح عنه، فهي محاولة الاتفاق على إدارة ملف إدلب وشرق الفرات وموضوع الانسحاب الأميركي وبالتالي إعادة تفعيل مسار استانة، واتفاق أضنة السوري التركي (1998)، ومن الواضح في ذلك محاولة موسكو إعادة ترتيب مناطق نفوذ في المنطقة قبل الجلوس على أي طاولة مفاوضات ترسم خطط مستقبلية للمنطقة.

ثمة نقاط دولية كثيرة ساخنة في العالم تتنافس وتتصارع فيها الولايات المتحدة وروسيا، من بينها الأزمة الفنزويلية المستجدة والتي بدأت ملامح استثماراتها الإقليمية والدولية تبدو بوضوح، ما يعزز فرضية حاجة الطرفان الروسي والأميركي إلى إعادة تموضع جديد في مناطق إستراتيجية تبدو فيها عوامل الاستثمار الاستراتيجي أقوى وأشد وضوحا وهي منطقة الشرق الأوسط بالتحديد، ذلك ما يبرر عقد هذين المؤتمرين أقله في الوقت الراهن. فالولايات المتحدة عمدت منذ بدايات العقد الماضي إلى الترويج لمشروع الشرق الأوسط الكبير بعدما روجت إسرائيل إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد بدايات العقد الأخير من القرن الماضي، وهي تتابع اليوم مساراته ومحاولة المضي به في وقت تواجه موسكو المشروع بقوة بعد تدخلها العسكري في الأزمة السورية.

طبعا لا يعتبر مؤتمر وارسو وما حاول التوصل إليه سوى مسار نحو محاولة إعادة تشكيل شرق أوسط جديد شكلا ومضمونا، وهو بطبيعة الأمر يستلزم حل عُقد كثيرة ليس من السهل حلها، من بينها الصراع العربي الإسرائيلي عامة والجانب الفلسطيني فيه خاصة، علاوة على الملف الإيراني، الأمر الذي يستلزم المزيد من المتابعة الحثيثة من قبل واشنطن، التي تواجه منافسا قويا في منطقة تعتبرها واشنطن منطقة إستراتيجية حيوية بالنسبة إليها، فهل أن تداعيات مؤتمر وارسو ستؤدي إلى انتقال التنافس إلى صراع في المنطقة؟ من الواضح أن من مصلحة إسرائيل جر المنطقة إلى حرب تعيد فيها بناء توازنات جديدة لمصلحتها، لكن إلى الآن لم تكتمل صورة هذا السيناريو الذي يعتبر مكلفا جدا لا يستطيع احد تحمله، ويبدو أن ما يخدم تلك السياقات هي حروب محدودة لمراكمة الاستثمارات وصولا إلى أهداف إستراتيجية محددة كإعادة التشكيل المطروح.

لكن الأغرب في كل ذلك، أن العرب هم خارج سياق المواقع الوازنة، والقوة الإقليمية الفعلية عمليا هي في يد كل من تركيا وإيران وإسرائيل، التي تتسابق على تكريس النفوذ الإقليمي بعد الدولي الأميركي والروسي، فهل سيتشكل الشرق الأوسط الكبير في المدى المنظور؟ إن عمر المشروع تجاوز العقدين من الزمن، ويبدو أن وقتا مماثلا من الحروب والتوترات الداخلية والبينية بين دول المنطقة يمكن أن تظهر قبل وضوح الصورة للأسف.