الصحافة التقليدية استعادت المبادرة بمقتل خاشقجي


مر أكثر من شهر منذ دخول خاشقجي القنصلية السعودية في إسطنبول، ولايمكن رؤيته مرة أخرى، لكنه ويا لسوء حظه نجح "في موته" بجعل عناوين الصحف تشد القراء في كل دول العالم.
جمال خاشقجي

قلة من الناس يحتاجون التذكير بالتعثر المستمر في وسائل الإعلام التقليدية، لسوء الحظ هذا التعثر مازال مستمرا لكن الجمهور لجأ بشكل تلقائي إلى الصحافة على مدار أزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، بوصفها المصدر الأكثر أهمية في المعلومات.

هناك ضجيج وحماقة يرتكبان على مواقع التواصل الاجتماعي، أصوات متنافرة، كلام لا يُصدق، فنتازيا معلومات، شتائم بذيئة، مكابرة الاستمرار في الطريق الخطأ… لم يجد الجمهور في كل ذلك الجحيم الرقمي طريقا إلى الحقيقة لمعرفة شيء معقول في تفاصيل جريمة مقتل خاشقجي.

لذلك عاد بشكل تلقائي إلى وسائل الإعلام التقليدية، الصحافة استعادت دورها من دون أن تخطط لذلك، واستعان بها أغلب القراء، ولم يقتصر الأمر على الأوفياء منهم. كانت الحاجة ماسة وعاجلة إلى معرفة ما حصل، ولم تكن غير وسائل الإعلام التقليدية مصدرا مفيدا في قضية شغلت العالم.

في الماضي غير البعيد، كانت وسائل الإعلام موجودة للدفاع عن جمهورها، كما بيّنت بيت هاميل في كتابها “الأخبار فعل”، ومع ذلك لم يتغير التعريف الكلاسيكي للأخبار وبقي كما هو، لكن تأثير الأخبار ضعف ولم يصبح الخبر أيا كان مصدره مفاجئا للجمهور.

وهكذا بدت مفارقة مأساوية في أن يكون جمال خاشقجي ضحية لموقف صحافي، وبطلا في أن يعيد للصحافة دورها المختطف من قبل وسائل الإعلام الاجتماعية من دون أن يقصد ذلك. فبعض الأحيان يتمكن أناس في موتهم من تحقيق أهداف بدت في حياتهم مستحيلة، أو ربما ساذجة.

وبغض النظر عما سيحدث في الأخير، قدمت هذه الأزمة المستمرة والمتصاعدة أمثلة للتعلم في نهج إعلامي متغير. لذلك بدت غالبية الصحف مدركة للمخاطر، وهي تشعر بنشوة استعادة شيء من دورها بأخبار فقدان أحد العاملين فيها بعملية قتل بشعة وخطيرة.

كانت صحيفة “برافو” التشيكية تقدم مثالا ملفتا عن ذلك بينما تدور كبرى صحف العالم بقصة خاشقجي عبر معلومات متدفقة تجذب إليها القراء وإن لم تصل إلى الحكاية القصة بعد.

 “برافوا” وصفت اللعب السياسي بين الأطراف الماسكة بخيوط عملية القتل من أنقرة إلى الرياض حتى واشنطن، بالدرس الذي يمكن أن يتعلم منه المراقبون السياسة الواقعية على الهواء مباشرة.

وكتبت “الواقع أنه ربما قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مكالماته الهاتفية مع بقية الزعماء، ساخرا، إن موت شخص إضافي لا يعني شيئا في ضوء الملايين من ضحايا الألعاب الجيوسياسية في الشرق الأدنى”. ورأت أن “الكيل بمكيالين يقوض مرة أخرى مصداقية السياسة الغربية، شئنا أم أبينا”.

كذلك تجد الصحافة التقليدية فرصتها لاستمرار الحديث عن قضية جمال خاشقجي، لأنها أعادت لها المسار إلى طريق الجمهور، بينما لا تجد وسائل التواصل الاجتماعي في قضية قتل الصحافي السعودي إلا فرصة لحذف آلاف الحسابات المزيفة التي لا تهدف إلا إلى تشويه الحقائق وإثارة الضغائن والتقليل من قدر الآخر بلغة تفتقد إلى الاحترام والكياسة.

تعترف الكاتبة في صحيفة الغارديان نسرين مالك في اليوم الأول لأفشل جريمة استخبارات سرية في التاريخ، عندما عرف العالم برمته تفاصيلها بعد ساعتين من تنفيذها! بأن القصة لن تحظى بالاهتمام الإعلامي لأكثر من يومين أو ثلاثة أيام.

كانت نسرين مدفوعة بتجارب الانتهاكات التي طالما حدثت في البلدان العربية وسط لا مبالاة غربية.

لقد مر الآن أكثر من شهر منذ دخول خاشقجي القنصلية السعودية في إسطنبول، ولا يمكن رؤيته مرة أخرى، لكنه ويا لسوء حظه نجح “في موته” في جعل عناوين الصحف تشد القراء في كل دول العالم بعد أن كانت مجرد أوراق تذروها الرياح.

تعزو نسرين مالك ذلك “ليس لأن خاشقجي كان صحافيا، وأن وسائل الإعلام عادة ما تثير الضجيج عندما يتعلق الأمر بأبناء جلدتها”. القضية أكبر من قتل شخص معروف، وعدم الاهتمام بموت ملايين الأشخاص المجهولين.

هناك جريمة قتل اختفت فيها الحقيقة، وكانت الفرصة النادرة المواتية للصحافة لنشر المعلومات وتحليلها، لاستعادة المبادرة التي فقدتها منذ أن دخلت الصحافة عصر الإنترنت. وهكذا بدأ الجميع في كل مكان يتحدث عن خاشقجي.

كان هناك شيء ما حول هذا الحدث، شيء هبط بطريقة لم يكن أحد يتوقعها. كان هناك عنصر من السذاجة الاستخباراتية السعودية بارتكاب جريمة مروعة. والجمهور يترقب معرفة حقيقة ما حدث، ومن حسن حظ الصحافة لم تقدر وسائل التواصل الاجتماعي أن تقدم شيئا مفيدا، فمنحت هذه الفرصة الصحافيين الحقيقيين أن يكونوا مصدر المعلومة التي خطفت منهم.

في قضية جمال خاشقجي لم يعد المصدر جيل الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، كان جميعهم مشغولين في هراء فارغ وشتائم بذيئة بين المشككين بالقتل وبين المزيفين لما جرى، بغض النظر عن الحقيقة.

وهكذا استعادت الصحافة المبادرة في فرصة ثمينة، وأكدت أن القراء أكثر بكثير من جيل الأوفياء الذين لم يتخلوا عن صحفهم، القراء في حقيقة الأمر من يبحثون عن الحقيقة ويستحقون لقطة واحدة وواضحة على الحقائق حتى يتمكنوا من تحديد من هم الرجال الصالحون ومن هم الأشرار. كما قال روبرت كايسر المحرر في صحيفة واشنطن بوست.

شعر الكثيرون بالامتنان للصحافة التي خرقت الانطباع السائد بشأن المصالح السياسية بين الدول، مثلما أثارت الاهتمام بشأن قضايا كثيرة مسكوت عنها.

صحيح أن وسائل الإعلام لم تحصل على الحقيقة بنفسها وكانت خاضعة لعملية ابتزاز معلوماتي تمارسه السلطات التركية، فيما أن القنصلية السعودية كانت أشبه بحصن صامت لا يقدّر قيمة نشر المعلومة على الأقل للدفاع عن نفسه.

لكن الصحافة لم تتوقف عند ذلك واندفعت بأقصى ما يمكنها للحصول على معلومات صغيرة للبناء عليها، فيما بقي “المواطن الصحافي” مشغولا بالتعبير عن كراهيته أو دفاعه عما يعتقد، بينما الحقيقة توجد في مكان آخر.