الصداع والغثيان في متلازمة هافانا

سوء الفهم في واشنطن مرض مستعص وغامض. إنه شيء لا يمكن للتحليل الطبي أن يتوصل الى معرفة طبيعته.
غزو العراق قام على أساس مبالغات ومزاعم وأوهام تدل كلها على خلل في المخ الأميركي
في أفغانستان كما في العراق، أقامت الولايات المتحدة نظاما أوسخ من النظام الذي سبقه

وكالة المخابرات المركزية تفكر أكثر من اللازم، حتى لتختلط عليها الحسابات، فلا يعود شيء منها مفهوما أو واضحا.

فإذا كان العيش في قلب نظرية المؤامرة جزء من طبيعة عملها، فإن المبالغة فيها لا تقود إلا الى طريق مسدود.

وهذا ما يحصل مع "متلازمة هافانا" التي تصيب العشرات من الدبلوماسيين الأميركيين، والمسؤولين العسكريين ورجال الاستخبارات وغيرهم.

ويتحدث المصابون بهذه المتلازمة أنهم يعانون من الصداع والدوار والغثيان وأعراض أخرى تشير الى وجود خلل في وظائف المخ. ويستطيع المرء أن يلاحظ أن هذه الأعراض التي ظهرت أول مرة على الدبلوماسيين الأميركيين العاملين في سفارة بلادهم في هافانا، شملت المئات ممن لم تقودهم الرحال الى كوبا، بل أن هناك من أصيبوا بهذه المتلازمة من دون أن يسافروا الى خارج الولايات المتحدة.

وفي البداية فقد ذهبت تقديرات الوكالة الى أن الإصابات ربما كانت ناجمة عن نوع من موجات الطاقة الموجهة.

ومن هذه الطاقة العجيبة الى الطاقة الصوتية العالية التي يمكن نقلها عن طريق التلفون، الى التحليلات الطبية التي لم تنته حتى الآن، فالحقيقة هي أن نظرية المؤامرة ذهبت في كل مذهب بينما السبب أبسط من ذلك بكثير. وهو سبب يمكن أن يصيب كل المسؤولين الأميركيين، كما يمكن أن يصيب أي أحد ينظر إليهم، ولو عبر شاشة التلفزيون.

السبب هو أن السياسات الاميركية هي نفسها تثير الصداع والغثيان. وهي تصيب المخ بالدرجة الأولى لأنها تعبر عن حالة من الاضطراب الذهني الغامض الذي لا يمكن للتحاليل الطبية أن تكتشفه.

لا أحد يستطيع أن يُقنع عاقلا، بأن الغزو الأميركي للعراق، لم يكن تعبيرا صريحا عن ذلك الاضطراب. فهو قام على أساس مبالغات ومزاعم وأوهام تدل كلها على خلل في المخ أصاب البيت الأبيض والكونغرس والحكومة الاميركية وجهاز المخابرات الذي ظل يبيع الأكاذيب.

ولئن انتهت الأمور الى دمار وخسائر وآلام هائلة على مستوى الجاني والضحية، فالحقيقة هي أنه ما من شيء جاء بعد ذلك إلا وكان أمرا يثير الصداع والغثيان.

تسليم العراق الى مليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني، شيء كان حتى الغثيان قليل فيه. ولو اكتشف بعض المسؤولين خلايا سرطانية في المخ، فالسبب يعود الى متلازمة العنجهية التي تتلازم مع سوء الفهم وسوء التدبير.

ولا أحد يستطيع أن يُقنع عاقلا بأن التخاذل الأميركي تجاه جرائم إيران وانتهاكاتها وتدخلاتها وأعمال ميليشياتها، لم يكن أمرا يثير الصداع والغثيان. كما لا يستطيع أي عاقل، أن ينظر الى الفشل المخزي في أفغانستان من دون أن يصاب بالدوار. فالولايات المتحدة التي تريد أن تلقن العالم دروسا في الديمقراطية حكمت هذه البلاد لعشرين عاما، ولم تستطيع أن تقيم فيها مؤسسات لا تغرق بالفساد. كما فشلت في إقامة نظام سياسي يحترم قيم العدالة والقانون، أو في انتاج طبقة سياسية تحترم المعايير الديمقراطية، وهو ما أبقى الأرض خصبة لعودة طالبان.

والسبب بسيط، في أفغانستان كما في العراق، وهو أن الولايات المتحدة أقامت نظاما أوسخ من النظام الذي سبقه. وظل البيت الأبيض مندهشا كيف أن الأمور لا تمضي كما هو مكتوب في أوراق النصوص المختزلة.

ولا شيء تغير في جماعات الحوثي من قبل وضعهم على قائمة المنظمات الإرهابية، ومن بعد رفعهم منها. فاختطاف السلطة لم يكن عملا إرهابيا، والصواريخ والمسيرات التي ظلت تُطلق ضد السعودية، لم تكن عملا يقلق واشنطن، ورفضُ كل عروض التسوية والحلول السلمية وفشل كل جهود مبعوثي الأمم المتحدة، لم يوصل الى البيت الأبيض ولا الخارجية الأميركية أي رسالة. وإذا وصلت، فقد أدار صانع القرار ظهره لها، وكأنه يفهم شيئا آخر غامضا، غير ما يراه بأم عينيه.

شيء لا يُصدق. ولكن إذا نظرت الى واقع صناعة الفشل، فهيهات ألا تشعر بالغثيان.

ظهور "المتلازمة" لدى موظفي السفارة الاميركية في هافانا أول مرة، يعود سببه الى أن هذا البلد يواجه حصارا خانقا لأكثر من نصف قرن، من دون أن يرتكب الكوبيون أي عمل يؤذي الولايات المتحدة، برغم أنها ما تزال تحتل قطعة من أراضيه، تستخدمها لبث "إشعاعات الديمقراطية" من معتقل غوانتانامو، حيث لا قانون ولا حقوق ولا قيم. وكوبا ليست سوى جزيرة صغيرة في محيط من الحيتان الضخمة. وكلما وصل إليها دبلوماسي أميركي، داخ وأصيب بالدوار، وغمرته مشاعر الغثيان.

وثمة سلسلة من السياسات الخارجية الأخرى التي قد تدل على سوء الفهم، وسطحيته، إلا أنها تدل في النهاية على اضطراب ذهني حقيقي، يدفع المرء الى الاعتقاد الى أنه ما من مسؤول اميركي إلا ويعاني من "متلازمة هافانا" إذا ما نظر الى أجواء "التخبيص" والفوضى التي تسود صناعة القرار في واشنطن.

هل كان يمكن لأحد أن يتخيل، على سبيل المثال، إعلان تحالف "أوكوس" بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، في عتمة الليل بالنسبة لحليف مثل فرنسا؟ بل وأن يؤدي الى إلحاق أضرار بها، نجمت عن ألغاء صفقة الغواصات مع استراليا، لتتكبد باريس خسائر تقدر بـ 90 مليار دولار؟

هل كان ذلك معقولا؟ هل كان تصرفا لشخص لا تثير أفعاله الغثيان؟ الفرنسيون كلهم ذهبوا الى الحمام لكي يفرغوا ما كان في معدتهم.

ثم أنظر الى قصة العودة الى الاتفاق النووي مع إيران. أنظر الى التنازلات التي ظلت واشنطن تقدمها على طول الطريق، حتى لينتهي الأمر بها أن ترفع العقوبات وتغذي بمئات المليارات من الدولارات بلدا، واشنطن هي نفسها التي تصنفه "أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم".

سوء الفهم في واشنطن مرض مستعص وغامض فعلا. إنه شيء لا يمكن للتحليل الطبي أن يتوصل الى معرفة طبيعته. وسببه الرئيس ربما يعود الى موجات طاقة غريبة، لا يتم توجيهها من الفضاء، ولكن يتم تحريكها بين مكاتب مستشارين حمقى، مثل روبرت مالي، الذي فشل في صياغة اتفاق نووي صحيح مع إيران، وظل البيت الأبيض يعتقد أنه يستطيع أن يصيغ اتفاقا أفضل، عندما يجرب حظه مرة أخرى، أو مثل قادة عسكريين، يستغلون عمليات جيشهم الخارجية لإثرائهم الشخصي، أو مبعوثين يستعينون في أداء مهماتهم بالدليل السياحي للبلد الذي يتوجهون إليه. وهم جميعهم يعتقدون أن الولايات المتحدة من القوة، بحيث أن كل ما تفعله صحيح بصرف النظر عما ينجم عن أعمالها من عواقب وخيمة عليها وعلى ضحاياها في آن معا.

ويليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية، حائر الآن وسط آلاف الأوراق والتحليلات المخبرية، لكي يبحث عن أثر لذلك المرض الغامض، بينما هو أمامه، بل وتساهم وكالته في تفشي "موجاته" بين أركان المكاتب الحكومية، عندما يقوم خبراؤه ومحللوه بتقديم تقديرات غبية، تتحول الى سياسات خارجية غبية.

هذا المستوى من الاضطراب الذهني، لا يحدث إلا بين المسؤولين الأميركيين. ولكن، بسبب خلل في وظائف المخ في واشنطن. وليسوا هم وحدهم الذين يعانون من الصداع والغثيان. العالم كله يعاني من الأعراض نفسها.