روسيا وأوكرانيا.. ثمن النصر أم ثمن الهزيمة؟

الجواب الذي عرفه التاريخ أكثر من مرة، هو أن روسيا يمكن أن تُهزم، مثلها مثل كل القوى العظمى الأخرى، التي هُزمت فتواضعت وتعلمت.
التهديد بالنووي هو نفسه اعتراف مسبق بالهزيمة
حين تتعرف على الخطر وتعيش معه ليس كما تتوقعه أو تتحسب له

لم يعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينتظر نصرا في أوكرانيا، ولكنه يتغالب مع الهزيمة. 
انسحاب قواته من أطراف كييف، وتخليه عن فكرة الإطاحة بحكومة الرئيس فلوديمير زيلينسكي، ومحاولاته للاكتفاء بالسيطرة على إقليم دونباس، شرق وجنوب أوكرانيا، تكشف بعض معالم الهزيمة. إلا أن وجهها الآخر هو ما سوف يطحن قوته "العظمى" المزعومة.
لقد انكفأت خططه، ويا ليتها لم تنكفئ، لأن الوجه الآخر للهزيمة ظل هو نفسه، سواء اقتحمت قواته كييف أم بقيت تطارد أشباح المقاومة في دونباس. 
النصر كان يعني بالنسبة لخططه السابقة أن يستولي على البلاد ويحل محلها حكومة عميلة، مفترضا أن النتيجة، على مستوى رد الفعل المحلي والدولي سوف تكون على غرار اجتياحه شبه جزيرة القرم في العام 2014. 
الاوكرانيون قرروا المقاومة، ووقفت كل قوى العالم الغربي معهم لتمدهم بالسلاح والذخيرة والأموال، وأطلقت سلسلة من حزم العقوبات، التي لن تنتهي بأقل من خسارة روسيا لنصف ناتجها الإجمالي. ما يجعلها أفقر من تركيا والسعودية. 
هذا هو الواقع الجديد الذي يُتوقع أن يستمر لعدة أعوام "حتى لا يعود بوسع روسيا أن تشن حربا مماثلة". 
ولو أن بوتين بقي على استراتيجيته الأولى، لكان قد حقق للغطرسة وضعا أفضل. إلا أنه خشي من الكلفة البشرية الباهظة التي سوف يقدمها جيشه. أقل التقديرات كانت تشير الى أن روسيا يمكن أن تخسر أكثر من 50 ألف جندي، وما لا يقل عن عشرة آلاف دبابة لكي تحكم سيطرتها على كامل مساحة أوكرانيا. 
بوتين مقامر، ولكن ليس من الطراز الأول. هو يعرف أنه في لعبة التحديق عينا بعين، يخسر مَنْ يرمش أولا. وقد رَمَش. رأى الكلفة، فغير الخطط، وقلص من حجم الطموحات. 
الطرف الآخر هو الذي رفع طموحاته. أوصلها الى أعلى ما يمكن للسقف أن يصل.
دع عنك المجانين في واشنطن، فهؤلاء مستعدون لعمل كل شيء الآن. ولكن عاقلا، هادئا، متحسبا، ومترددا مثل المستشار الألماني أولاف شولتس هو الذي يقول الآن "إن العقوبات ضد روسيا سوف تستمر الى أن يتحقق السلام. وليس أي سلام. وإنما السلام الذي ترضى به أوكرانيا". 
الترجمة الوحيدة الممكنة لهذا الكلام، هي أن العقوبات سوف تستمر حتى تنسحب روسيا من كل شبر من الأراضي الأوكرانية، وتدفع تعويضات عن الأضرار التي لحقت بها. ولئن كان من الممكن أن تحصل روسيا على شبه اعتراف بسيادتها على القرم، فإن هذا الاحتمال يتضاءل الآن. كما أن فكرة "حياد أوكرانيا" سوف تظل ملغومة بمطلب الضمانات الأمنية التي تطلب كييف أن تتوفر لها من دول كبرى، لتكون بمثابة عودة الى عضوية الحلف الأطلسي من الباب الخلفي. 
فنلندا والسويد، المحايدتان حتى الآن، تزمعان التقدم بطلب عضوية الأطلسي. وهو ما سوف يشكل صفعة على الوجه للحرب التي أراد بوتين منها أن يمنع أوكرانيا من الالتحاق بعضوية الأطلسي، زاعما أن ذلك يهدد أمن روسيا. 
بلدان اضافيان على الحدود مع روسيا، عندما يلتحقان بالأطلسي، لن يُبقيا مكانا لهذه الذريعة حتى بالنسبة لأوكرانيا نفسها. 
أي اتفاق للسلام سوف يتطلب أن يحظى بالقبول في استفتاء عام في أوكرانيا، لاسيما وأنه يتطلب تعديلات دستورية. 
إذا التحقت فنلندا والسويد بعضوية الأطلسي، وإذا تمسكت روسيا باحتلال أي جزء من الأراضي الأوكرانية، أو إذا رفضت تقديم تعويضات، فان مقترحات الاستفتاء سوف تفشل. والنتيجة من ذلك هي أن الأزمة سوف تظل مفتوحة، والعقوبات سوف تبقى الى أمد مفتوح. 
الاقتصادات الغربية التي أنفقت نحو 9 تريليونات دولار لتغطية تكاليف وباء كورونا، لن يعز عليها أن تنفق تريليونا أو اثنين لهزيمة وباء الغطرسة الروسي. والـ 33 مليار دولار الاميركية الجديدة ليست سوى خطوة في أول الطريق. 
تملك روسيا الكثير من الصواريخ التي تستعرض بها عضلاتها كل يوم. إلا أنها مع كل صاروخ تطلقه، تزيد فاتورة التعويضات على نفسها، وتقلل من قيمة المخاوف من ترسانتها. فعندما تتعرف على الخطر وتعيش معه، ليس كما تتوقعه أو تتحسب له. الخشية زالت.
لم يتردد الرئيس بوتين بالتلويح بأسلحته النووية. كان ذلك بمثابة إقرار مسبق بالهزيمة العسكرية والمعنوية في الصراع على الأرض. ولكنه لم يقل، فوق ذلك، ضد من سوف يطلق صواريخه النووية. لم يجرؤ على التصريح، لأنه يعرف النتيجة.
بعض الذين يبيعون الهوس في موسكو، يقولون إن روسيا سوف تزيل بريطانيا من على وجه الأرض. 
الغربيون سخروا علنا من هذا التهديد، وحاولوا أن يُظهروا تجاهلهم له، إلا أنهم شحذوا السكاكين سرا، لكي تتم إزالة روسيا من على وجه الأرض أيضا.
الكلام في واشنطن وصل الى حد القول إن الولايات المتحدة سوف تُفرغ ترسانتها النووية كلها فوق رأس بوتين والمصابين بالهوس من أمثاله. 
بوتين مقامر. والروليت الروسي هو أن تحشو المسدس بطلقة واحدة وتدير "البكرة". فتضع الفوهة على صدغك، ثم تضغط على الزناد. 
بوتين حشا البكرة، ذات الخمس طلقات، بخمس طلقات، وأدارها. ويهدد الآن بإطلاق النار! يفعل ذلك بدوافع الغطرسة التي تقول إن روسيا لا يُمكن أن تُهزم. 
الجواب الذي عرفه التاريخ أكثر من مرة، هو أن روسيا يمكن أن تُهزم، مثلها مثل كل القوى العظمى الأخرى، التي هُزمت فتواضعت وتعلمت.
الولايات المتحدة، هُزمت في كل مكان تقريبا. كما هزمت روسيا في حربين مع فنلندا، وثالثة في أفغانستان، ورابعة عندما تفكك الاتحاد السوفياتي، وها هي الخامسة ماثلة للعيان. يستطيع حتى الأعمى أن يراها. 
التهديد بالنووي، هو نفسه اعتراف مسبق بالهزيمة. اعترافٌ بأنها ملموسة لمس اليد التي تلوّح بالمسدس ذي الطلقات الخمس!
وعلى الرغم من أن أحدا لا يمكنه الرهان كثيرا على سيرغي لافروف، فقد قال أخيرا بأنه "يجب ألا تنشب حرب نووية بتاتاً". وأنه "طالب بإعادة تبني إعلان رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف بنبذ الحرب النووية".
هذه رمشة عين أخرى. الغرب يحدّق بعناد أكبر، ويبتسم. ورفعت الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية الى أوكرانيا الى السقف الأول. 
يعرف الرئيس بوتين ما هو ثمن النصر الذي سعى الى تحقيقه. كان يجب أن يدفعه، كمقامر حقيقي، ولو بخمسين ألف جندي وعشرة آلاف دبابة. ولكنه لم يجرؤ. فصار يتغالب مع ثمن الهزيمة. ولن يطول عليه الوقت ليكتشف، أنه ثمن أوفر، وأن روسيا يمكن أن تُهزم، ومن الخير لها أن تُهزم، لتتواضع وتتعلم.