واشنطن وطهران والصفقات السعيدة

يجب ألا يستهين أي إنسان بالمواقف الاميركية من الشعب الإيراني في احتجاجاته وتظاهراته. وتقديم الأموال للمساعدة في قمعه هو أكبر دليل على المواقف الحقيقية للبيت الأبيض. إنه بيت نفاق.

ليس كل شيء سيّئا بالنسبة للسلطات الإيرانية، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة هي التي تقف على الطرف الآخر للأنباء السعيدة.

صحيح أن الإيرانيين يتظاهرون منذ أربعة أسابيع ضد سياسات القمع التي تمارسها سلطات بلادهم، وصحيح أن سجلات إيران المتعلقة بحقوق الإنسان مروعة بحسب التصنيفات الأميركية، وصحيح أن الولايات المتحدة تحتفظ بسجلات عن هذه الانتهاكات تجعل منها شاهد زور كبيرا على ما تعرفه وتصمت عنه، وصحيح أن إيران تمارس تهديدات لم تنقطع ضد الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وصحيح أن تدخلاتها تزعزع الاستقرار في غير مكان، إلا أن ذلك كله لم يمنع الإدارة الاميركية من التوصل الى صفقة مع إيران لتبادل محتجزين وسجناء، تشمل الإفراج عن ما لا يقل عن سبعة مليارات دولار لكي يدعم النظام الإيراني بها نفسه.

هذه الأموال سوف تستخدمها إيران، كما قد يتوقع البيت الأبيض، في شراء أغطية رأس للإيرانيات اللواتي قررن خلعها. كما أن إيران سوف تشتري بها حزما من الزهور الهولندية لكي ترشها على رؤوس المتظاهرين بدلا من الرصاص. وقد يذهب الاعتقاد في واشنطن أن دعم قدرات النظام الإيراني سوف يتحول الى قمح يتم توزيعه على الفقراء والجياع. وأن جانبا من الأموال سوف يذهب لتحسين قدرات الصواريخ الباليستية الإيرانية بحيث تحمل عطورا فوّاحة بدلا من رؤوسها المتفجرة.

لا شك أن هذا هو الاعتقاد. لأن أي اعتقاد غيره يجعل تقديم هذه المليارات سببا للحيرة، ولإثارة التساؤلات عن الجهة التي يدعمها البيت الأبيض في إيران: أهي سلطة رجال الدين التي ارتكبت كل ما ارتكبت بحق شعوب إيران، أم هي هذه الشعوب التي ترزح تحت نير القهر والقمع والمظالم؟

حقوق الإنسان موضوع مهم جدا بالنسبة للولايات المتحدة، الى درجة أنها لا تترك فرصة أو مناسبة إلا وتستغلها لممارسة ضغوط لا علاقة لها بأي إنسان. ولكن بموجب هذه الصفقة، فإثارة الموضوع إنما يقصد الدفاع عن حقوق الذين ينتهكون حقوق الإنسان.

التوقيت نفسه ممتاز. فبينما يسقط العشرات قتلى في شوارع المدن الإيرانية المختلفة، فإن منح الذين يطلقون الرصاص ذخيرة إضافية هو أهم دليل على مدى احترام الولايات المتحدة للقيم والأخلاقيات الإنسانية. إنه أيضا تعبير صريح عن مدى دعمها للشعب الإيراني، بالكلمات، بينما هي تدعم الذين يقتلونهم بالأموال.

الصفقة جزء من مطالب سابقة. وتراهن الإدارة الاميركية على فقدان الذاكرة بين الناس، لكي تمرر سبعة مليارات دولار كان قد طالب بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، قبل نحو ثلاثة أشهر كتعبير عن "حسن النيات" من جانب الولايات المتحدة لتوقيع الاتفاق النووي.

وها قد أثبت البيت الأبيض شيئين: الأول، أنه حسن النية فعلا تجاه سلطات إيران. وثانيا، أنه يعرف كيف يخلط الأوراق لتقديم الأموال، فهو قدمها تحت غطاء صفقة تبادل سجناء، بينما المقصود هو تلبية مطلب رئيسي من مطالب التوقيع على الاتفاق النووي.

صفقة تبادل السجناء، يُفترض أن تعني في النهاية ما تقول: أي "تبادل السجناء". ولم يحدث من قبل في أي صفقة مماثلة أن تضمنت مكافآت مالية ضخمة. ولكن الشاطر شاطر. يخلط عليك الأوراق، لتظل تعتقد أن دوافعه إنسانية تماما.

وعندما تبين أن الامر فضيحة، أنكر البيت الأبيض أن يكون الإفراج عن الأموال على علاقة بصفقة التبادل. ولكن، إذن، على علاقة بماذا؟

حتى التخبط، لا يكون بمبلغ بذلك المقدار.

يجب ألا يستهين أي إنسان بالمواقف الاميركية من الشعب الإيراني في احتجاجاته وتظاهراته. وتقديم الأموال للمساعدة في قمعه هو أكبر دليل على المواقف الحقيقية للبيت الأبيض.

إنه بيت نفاق. يدعم واحدا من أسوأ ما عرفت البشرية من الأنظمة، وأكثرها تهديدا لمصالح الولايات المتحدة، في أسوأ لحظة ممكنة من لحظات التاريخ، وذلك عندما يتظاهر الملايين ضد نظامهم، مطالبين له بالموت، بينما يمده البيت الأبيض بأسباب البقاء.

الأجواء على الجبهة الدبلوماسية بين الطرفين تبدو هادئة تماما. والأموال تنتظر اللحظة المناسبة لكي تصل. إي عندما يتم قمع الانتفاضة، ويتم غسل الدماء من الشوارع. فيتم الإعلان عن تحقيق "تقدم" – يبدو أنه أصبح جاهزا- لتوقيع الاتفاق النووي. وهو ما سيكون منعطفا تاريخيا أيضا في حياة نظام كان يترنح تحت وطأة الاحتجاجات.

نظام الولي الفقيه حتى وإن بقي يهدد الولايات المتحدة ومصالحها ووجودها في المنطقة، فإنه سوف يدرك، ضمنيا على الأقل، أن وجوده نفسه، في أكثر لحظات التاريخ حرجا، كان بفضل تواطؤآت إدارة الرئيس جو بايدن.

وهذا دليل يثبت الى أي درجة تتصرف الولايات المتحدة بصدق مع قيمها المعلنة. وكيف أنها، من أجل إطلاق سراح محتجزين يحملون الجنسية الأميركية، مستعدة لإبقاء الشعب الإيراني محتجزا تحت سلطة القمع والترهيب.

ولا أحد بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين معا يجوز له أن يشعر بالقلق من شعار "الموت لأميركا"، فعلى طاولة المفاوضات، فإن الشعار الحقيقي هو: المجد لأميركا، والخلود لسياساتها التي كلما قيل إنها معادية لسلطة الاستبداد الديني في إيران، كلما ثبت عكس ذلك.

السؤال الذي لا بد وأن يشغل البال هو: هل الذين يخططون هذه السياسات أميركيون حقا؟ أم أنهم أعضاء في "الحرس الثوري"؟

وحيث أنهم، بالدليل المادي الملموس، يعملون لخدمة مصالح إيران، فهل يتقاضون رواتبهم من وزارة الخزانة الأميركية، أم من ميزانية الحرس الثوري الإيراني؟

الشعب الإيراني يتعلم الآن درسا جديدا. وهو درس لا يفترض أن يكون مفجعا.

والدرس هو أن الولايات المتحدة ليست صديقا يمكن التعويل عليه أو الثقة به عندما تكون السلطات الإيرانية هي التي تقف على الطرف الآخر للأنباء التعيسة.

لو كان المسؤولون الاميركيون عن إدارة العلاقات مع إيران عملاء أو مجندون في الحرس الثوري، فإنهم ما كانوا ليتجرؤوا على وقاحة بهذا المقدار، خوفا من الفضيحة.

ولكن فريق الرئيس بايدن يجرؤ. لأن الوقاحة جزء من طبيعته.