الصواريخ القصيرة المدى والأزمة الفنزويلية

خاصرة روسية رخوة في أوروبا تقابلها خاصرة أميركية رخوة في أميركا اللاتينية.

شكل الانسحاب الأميركي من معاهدة الصواريخ القصيرة المدى أواخر العام الماضي مناسبة إضافية لرفع منسوب التوتر في العلاقات الأميركية الروسية، وبخاصة عند نشوء أزمات إقليمية بأبعاد دولية، وكان مؤتمر الأمن الذي عُقد في ميونخ مؤخرا منصة لذلك. وعلى الرغم من عدم أهمية نوعية الصواريخ في البُعد الاستراتيجي لجهة المدى، فان التدقيق في التصريحات الروسية، تعكس حساسية القضية بالنسبة إلى موسكو، بالنظر للقطاع الجغرافي الذي يمكن نشرها فيه.

وفي حقيقة الأمر، اعتبرت الصواريخ القصيرة المدى جزءا من سياق عام مضت فيه كل من موسكو وواشنطن في إطار سباق التسلح في النصف الثاني من القرن الماضي، إضافة إلى اعتباره جانبا تكتيكيا إلى جانب حرب النجوم الذي استعرت مظاهرها في ثمانينات القرن الماضي أيضا، والذي كان من بين الأسباب الرئيسة لانهيار المنظومة الاشتراكية فيما بعد، كنتيجة لعدم قدرة الاتحاد السوفياتي الاقتصادية آنذاك من مجاراة سباق التسلح الذي مضت فيه واشنطن في تلك الفترة.

واليوم يعود هذا الموضوع إلى الواجهة مجددا، بعدما أثاره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام الكرملين الروسي وإعطائه أبعادا إستراتيجية لجهة البُعد الجيوسياسي للمناطق التي ستلجأ الولايات المتحدة لإعادة نشرها فيه، وبالتحديد في مناطق أوروبا الشرقية، التي تعتبر خاصرة رخوة لموسكو، وهي من أشد المناطق حساسية التي تعتبرها موسكو مجالا حيويا ينبغي عدم اللعب فيها بالنظر للتجارب السابقة بين البلدين.

إن تصريح الرئيس بوتين وبشكل صريح حول حراجة هذا النوع من الصواريخ في حال تمَّ نشرها في أوروبا الشرقية وهو الملعب الرئيس لحلف الناتو في مواجهة روسيا، سيكون من المواضيع الأشد قلقا، وبخاصة عند إشارته إن الوقت الذي ستستغرقه هذه الصواريخ في حال أطلقت على موسكو لن يتعدى 12 دقيقة، وهو وقت قاتل من الصعب مواجهته في إطار تكتيكي لا استراتيجي، وهو تعبير دبلوماسي روسي مبطن بتحذير عالي المستوى لواشنطن باعتباره امرأ يمس القضايا الحيوية الروسية.

وبالمقارنة والمقاربة لنوعية الصواريخ ومدى انتشارها، ينبغي النظر إليها من سياق تسليحي عام، فمن الناحية العملية لا تعتبر هذه الصواريخ القصيرة المدى سوى وسائل ردعية منخفضة المستوى ضمن سياق ردعي أساسي بين البلدين، وبالتحديد في إطار الصواريخ البالستية البعيدة المدى، المنظمة أصلا في معاهدتي سالت 1 وسالت 2، التي جُدد الاتفاق على بعض تفاصيلها بشكل دوري بين البلدين. إلا أن ما يعطي هذه القضية أبعادا أخرى، ارتفاع منسوب التوتر الدولي في بعض الأزمات ومنها الفنزويلية تحديدا والمرشحة أن تكون أزمة كوبية مجددة بين الطرفين، بعد تصاعد تصريحات التدخل المباشر ومنها العسكري في فنزويلا، التي تعتبر خاصرة رخوة في المجال الحيوي الأميركي، وهنا التساؤل من الناحية العملية مشروع حول إمكانية لجوء موسكو لنشر صواريخ مماثلة وبالتالي تهديدها لواشنطن كما حصل في أزمة الصواريخ في كوبا عام 1961.

في أي حال، تعتبر تصريحات الرئيس بوتين، مواجهة استباقية لهذا الملف، وتصعيده مشروط بالسلوك الأميركي وكيفية مساره فيما بعد، والذي يؤكد ذلك، اقتران هذه التصريحات مع الإشارة إلى أوضاع داخلية روسية، لجهة حجم الفقر الذي وصل إلى 19 مليون، والإشارة إلى وجود إعادة النظر بالتوزيع الديموغرافي للسكان الذي تأثر بشكل واضح في العقدين الماضيين وحثه على إنجاب الطفل الثالث ضمن سلة تحفيزية، كل ذلك يُقرأ في الاقتصاد والسياسة كإشارة لعدم قدرة روسيا حاليا الدخول في سباق تسلح جديد سيما وأنها وقعت فيه إبان ثمانينيات القرن الماضي.

يبدو إن إثارة هذا الملف في الوقت الحاضر، هو مناسبة للإشارة إلى إمكانية تثميره في التوتير الدولي الحاصل في بعض الأزمات ومنها الفنزويلية تحديدا، والتي يبدو بحسب القراءات الدقيقة ستكون مدخلا لفتح قضايا أميركا اللاتينية برمتها ضمن إطار التنافس الأميركي الروسي القائم في غير مكان من العالم، فهل ستعيد الصواريخ القصيرة المدى ما جرى في كوبا، من نشر صواريخ وصواريخ مضادة؟ ما يعزز هذه الفرضية إعادة إحياء هذا الملف التكتيكي وسط ارتفاع منسوب التوتر الدولي، وبالتالي إمكانية استثماره في ذلك.