العدوان الإسرائيلي على غزة وتداعياته

العدوان الأخير يختلف بتداعياته واسبابه وخلفياته عن مجمل الاعتداءات الكبيرة التي نفذت سابقا.
ازمة حكم ترقى الى مستوى ازمة نظام في اسرائيل
وضع إقليمي مأزوم وضاغط متعدد الاشكال والابعاد
تباينات عميقة في الرؤى بين الفلسطينيين حول كيفية التعاطي مع مشاريع السلام المختلفة

ليست سابقة تاريخية ولا عقائدية ان تقدم إسرائيل على تنفيذ اعتداءات منظمة سلفا وبخاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتحديدا في قطاع غزة ـ حتى باتت تلك الاعتداءات بمثابة قاعدة تستعملها القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية عند كل حدث بصرف النظر عن أهميته او حجمه او تداعياته، بحيث ان منسوب العدوان ومستواه يتعدى بأشواط كبيرة حتى الضرورات التي تبيحها قواعد القانون الدولي الإنساني في الحروب والنزاعات المسلحة.

والعدوان الأخير المنفذ في النصف الثاني من مايو/أيار الماضي، يختلف بتداعياته واسبابه وخلفياته عن مجمل الاعتداءات الكبيرة التي نفذت سابقا كاعتداء العام 2008 و2010 و2012 و2014 وما تلاها من اعتداءات صغيرة ومتوسطة متفرقة. فالعدوان نفذ وسط ظروف إسرائيلية وفلسطينية وإقليمية ودولية دقيقة، واستهدف العديد من القضايا الاستراتيجية والتكتيكية ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي او بالقضايا الإقليمية ذات البعد الدولي من جهة أخرى.

إسرائيليا، ثمة ازمة سياسة قاعدتها المبدئية ازمة حكم ترقى الى مستوى ازمة نظام، انشقاق داخلي عامودي بين الطرفين التقليديين اللذين يقودان الحياة السياسية في النظام، مترافقا مع حالات فساد منظمة وموصوفة في رأس الحكم وقياداته السياسية والأمنية والعسكرية، تبتدئ من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ولا تنتهي بمؤسسات امنية وعسكرية معتبرة في الحياة السياسية ويتكل عليها في عمليات اتخاذ القرارات الحاسمة. هذه الظاهرة الموصوفة ليست جديدة وانما لها امتدادات عميقة في النظام السياسي الحاكم، لكن هذه المرة اتخذت ابعادا وتداعيات اكثر خطورة على الكيان ولامست الخطر الوجودي. كما ان العامل الاجتماعي الاقتصادي وكذلك الوضع الصحي جراء جائحة كورونا، شكلت جميعها ظروفا مقنعة في رأس نتنياهو لتنفيذ عدوانه، على القاعدة المتعارف عليها في الحياة السياسية الإسرائيلية، وهي الهروب الى الامام في اعتداءات وحروب خارجية، في محاولة لتسجيل انتصارات وهمية والتهرب من انتاج الحلول المقبولة داخليا وخارجيا. وهي عادة متبعة ترتقي الى مستوى قاعدة تستعمل في الحياة السياسية الإسرائيلية عبر الهروب الى الامام من أي استحقاق داخلي او خارجي.، وقد نفد في مناسبات اسرائيلية عدة ان على مستوى تكتي ام استراتيجي كاعتداءات وحروب كبيرة او متوسطة، ضد الفلسطينيين في الداخل او ضد الدول العربية.

فلسطينيا، وللأسف ليس الوضع افضل حالا، تباينات عميقة في الرؤى حول كيفية التعاطي مع مشاريع السلام المختلفة بدءا من مؤتمر مدريد 1990 مرورا بأوسلو وكامب دايفيد وواي ريفير والكثير من المحطات والمشاريع المتنوعة، وسط ضغوط عربية وإقليمية ودولية هائلة، يستحيل معها التوصل الى قواعد واضحة للتعامل مع عدو يجيد اقتناص الفرس وتحويل الاستثمارات الأمنية والسياسية والعسكرية الى نتائج محققة.

عربيا، تراجع موصوف في الحضور السياسي الإقليمي والدولي والفلسطيني، حتى يكاد الصوت مختفيا، وحيث كل دولة تتلهى بمشاكلها التي لا تنتهي، وبدلك فعالية التدخل معدومة ان وجدت، وبالتالي فرص تنفيد العدوان كانت متوفرة وبمنسوب إسرائيلي عال، ما أتاح لإسرائيل تنفيد عدوانها دون عراقيل عربية ذات وزن كبير، وهو امر مكرر وليس جديدا، ففي معظم الحالات كان يترك الفلسطينيين لقدرهم.

إقليميا، وضع مأزوم وضاغط، متعدد الاشكال والابعاد، وله من الامتدادات والتداعيات والمؤثرات التي لا تنتهي في ظروف الدول الداخلية وعلاقات الخارجية؛ علاوة على القضايا ذات الصلة بأبعاد دولية. ومنها قضايا لها امتداداتها القوية والمؤثرة في ملفات أخرى متصلة بقضايا داخلية. ربما ابرز هذه القضايا البرنامج النووي الإيراني الذي استهلك الكثير من الجهد والوقت في السياسات الإقليمية والدولية وترك آثارا جمة على العلقات الإقليمية مثلا وعلى طبيعة القضية الفلسطينية وارتباطات حلولها. فالتدقيق مثلا في هذا الجانب يعزز الاعتقاد بأن سلسلة الاعتداءات التي نفذت على غزة مثلا، لها بعدا استراتيجي لجهود كسر التوازنات الإقليمية في المنطقة او إعادة بنائها او تعديها، وبخاصة مثلا بين إسرائيل وايران عبر حماس والقوى الإسلامية في غزة وحزب الله في لبنان، وعليه فان الاشتباك الأخير وتحديدا العدوان لا نقل خلفياته او تداعياته او نتائجه المباشرة وغير المباشرة على القضية الفلسطينية برمتها.

اما الظروف الدولية فلا تقل تعقيدا وتأثيرا لجهة تكوين الظروف المناسبة لإسرائيل، فروسيا وأميركا مشغولتان بملفات ثنائية معقدة كقضايا العقوبات الاقتصادية على موسكو وبرامج التسلح والحروب التجارية الطاحنة التي دخلت فيها الصين لاعبا رئيسا، علاوة على النقاط الساخنة في غير مكان من العالم، عدا عن تداعيات جائحة كورونا على الأوضاع الدولية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ناهيك عن التداعيات الصحية.

تلك الظروف والأوضاع لا تبعد سياسة إسرائيل من الملف النووي الإيراني ومحاولة تدخلها الدائم في سياق المفاوضات الدولية الجارية بين ايران والولايات المتحدة في فيينا، وكأن العدوان المنفذ الهدف الأساس منه حجز مكان رئيس في أي ترتيبات قادمة في هذا الملف، وهو مقعد تريده إسرائيل متقدما ومؤثرا وفاعلا، بحث تعتبر هذا الملف متصل بشكل وجودي بحياة إسرائيل واستمراها ككيان في المنطقة.

لقد أدى العدوان الإسرائيلي على غزة الى تنفيذ مجازر ضد الشعب الفلسطيني في غزة راح ضحيته المئات بينهم اعداد كبيرة من الشيوخ والنساء والأطفال، اضافة الى تدمير الابراج والمساكن واتلاف القطاعات الزراعية ونسف المنشآت والمؤسسات الحيوية في غزة، باختصار نتائج عدوان ارتقت الى توصيفات يحرمها القانون الدولي الانساني، وفي طليعتها جرائم حرب موصوفة. ورغم الخسائر التي تكبدتها إسرائيل، فلا مجال للمقاربة او المقارنة عمليا لجهة الاحجام والنوعيات التي تم استهدافها او تضررها. وفي أي حال من الأحوال ورغم أهمية هذه الخسار، تبقى النتائج السياسية هي الأهم والتي يبنى عليها لاحقا.

في المبدأ، وباعتراف إسرائيلي مبطن أحيانا ومعلن أحيانا أخرى، بأن الغلبة لم تكن لإسرائيل ولم تتمكن من تحقيق أي من اهداف العدوان المعلنة او غير المعلنة ويمكن في هذا السياق تسجيل الملاحظات التالية وأبرزها:

-         لم تحقق إسرائيل أي هدف استراتيجي او تكتيكي معلن او مبطن من العملية، فقد دخلت مسارا عسكريا ولم تتمكن في مراحله المختلفة من السيطرة على مجريات العمليات العسكرية والأمنية، بل بدت كعادتها تستنجد بغير طرف لوقف اطلاق النار.

-         تمكنت المقاومة من تحديد مسارات الرد العسكري في العديد من المناطق الفلسطينية المحتلة وبصواريخ ذات نوعيات محددة، وهي سابقة في المواجهات العسكرية والأمنية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

-         لم تتمكن إسرائيل من تنفيذ اجتياحات برية للقطاع بهدف تحرير الجندي الأسير، وظلت المعركة برمتها تبادلا للقصف الصاروخي النوعي بين الطرفين.

-         تمكنت المقاومة من تحديد واستثمار مجريات التفاوض لوقف اطلاق النار، وحددت شروطها التي تمكنت من انتزاعها عنوة. من الطرف الإسرائيلي.

-         عودة مصر الى الإمساك بملف غزة عمليا، بعد تدخلها وافساح المجال لنجاح مبادرتها لوقف اطلاق النار بين الطرفين.

-         تمكنت المقاومة الفلسطينية من تثبيت قواعد الاشتباك، وعدم تمكن إسرائيل من فرض قواعد جديدة تطال من فعالية الموقف الفلسطيني وتأثيراته عمليا وفعليا.

-         تمكنت المقاومة مع اطراف اقليميين آخرين من رسم صورة مبدئية لقواعد عامة تهيء لنظام إقليمي شرق اوسطي لا تكون لإسرائيل اليد الطولى فيه.

-         تمكنت المقاومة من التحكم بقواعد اللعبة السياسية في إسرائيل عبر اخراج رئيس الوزراء الإسرائيلي من الحكم، وهي سابقة لجهة التأثير او الفعالية.

-         تمكنت المقاومة من الحد من تسارع اجواء التطبيع مع إسرائيل.