العراق أمام سيناريوهات خطيرة

الانسحاب الأميركي من العراق منحى خطير إذ يترك حتى السياسيين المقربين من إيران أمام رحمة طهران بالمطلق.

من يستقرئ ما يجري في العراق من تطورات دراماتيكية، وما يشهده من أحداث ساخنة يعيد بنا الأحوال الى سيناريوهات المربع الاول والى أحداث ما قبل عام 2003، حيث يرى المتتبع لتلك التطورات المتسارعة أن الأحول في العراق تنذر بمفاجئات كارثية في كل الأحوال.

تمعنت كثيرا في سيناريوهات تم وضع تصورتها من مختصين عراقيين رفيعي المستوى ولديهم رؤى إستراتيجية يمكن إدراج محاور تلك السيناريوهات على الوجه التالي.

يرى السياسي العراقي والنائب السابق فائق الشيخ أن العراق أمام أن تحكمه شخصية قوية جدا جدا تفوق "الدكتاتور السابق" في قوته وبطشه وهيمنته على مقدرات العراق، ولن يكون بمقدور أحد الوقوف بوجهها. أي أن السيد فائق الشيخ يتوقع أن يكون هناك "حجاجا" آخر قد يحكم العراق في مستقبل قريب، ويعود هذا البلد الى مرحلة قد تكون أسوأ من الدكتاتوريات السابقة في كثير من الإحتمالات التي ستعصف بالعراق.

أما المحلل الإستراتيجي سالم الجميلي وهو أحد أعمدة جهاز المخابرات العراقي السابق، فله رؤية أخرى عن تلك التطورات الدراماتيكية المتسارعة، وهو يعلق على "أن العراق إذا كان عازما هذه المرة على إخراج القوات الأميركية فأمامه جملة سيناريوهات قد تحدث."

ويضيف الجميلي "ان الولايات المتحدة مستعدة للانسحاب من العراق اذا طبت حكومة السوداني ذلك، لكن هذا القرار كما يتصور يضع العراق في خانة ايران أمام الولايات المتحدة والعرب وما يترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية وامنية ".

ويؤكد "أنه ليس من مصلحة العراق" أن تسير به الأحوال الى مرحلة تقسيم قد يتعرض البلد الى سيناريوهاتها في وقت قريب بتشكيل ثلاث كانتونات طائفية كان معدا لها من قبل منذ الألفية ويجري الإعداد للوصول اليها هذه المرة عندما يقدم العراق مستقبله لكي يكون على هذه الشاكلة.

ومن وجهة نظر محللين آخرين ومتابعين للشأن العراقي أن هناك توجهين لدى السنة والكرد للتناغم مع طروحات من هذا النوع، ربما يدفع تلك الكيانات الطائفية والقومية (السنة والكرد) بالترحيب بخطوة تقسيم من هذا النوع كي يحفظ لهم بقية هيبتهم على الأقل.

ويتوصل السيد سالم الجميلي في رؤيته عن أحداث العراق الى نتيجة مفادها "إنه حتى إيران ليس من مصلحتها ان تنسحب الولايات المتحدة من هذا البلد لأنها من وجهة نظره ستفقد الجدوى الاقتصادية والسياسية والامنية المتحققة منه." والعراق بحسب تصوره أصبح أشبه بـ "عميل مزدوج" يعمل لصالح ايران مزروع بين صفوف أعدائها سرعان ما يفقد قيمته اذا جرى سحب القوات الاميركية منه.

خبير آخر وهو متخصص بالشأن العراقي ولديه رؤى إستراتيجية منذ عقود من الزمان يعرفها الكثيرون يرى أن مغادرة القوات الأميركية العراق سينجم عنه ما يلي.

أولا.. غلق السفارة الأميركية في بغداد وسيتبعه غلق معظم السفارات الأوروبية وغيرها، وسيصبح العراق بلدا مارقا كسوريا ومستباحا بشكل واضح من القوات الاميركية دون الرجوع لأية اتفاقيات مع العراق. ما يعني أن الولايات المتحدة ستطلق يد طيرانها لضرب المليشيات العراقية إن استمرت في ضرب القوات الأميركية في سوريا.

ثانيا.. لدى واشنطن سلاحا أمضى واخطر من الطيران وهو السلاح الإقتصادي.

وبعبارة أدق، كما يقول هذا المحلل الإستراتيجي فإن لدى العراق في البنك الفيدرالي الأميركي أرصدة تتجاوز الـ 100 مليار دولار وصكوكا من الخزانة الاميركية إشتراها العراق فيما سبق، إضافة الى ما يتسلمه العراق من واردات النفط شهريا بالدولار من الولايات المتحدة وتصل الى بغداد بالطائرات الاميركية وهي بالمليارات لتعزيز موجودات البنك المركزي العراقي.

هذه الأموال كما يعرفها الكثيرون محمية من وجهة نظره بمرسوم يوقعه الرئيس الاميركي سنويا، وهدف هذا الإجراء حماية الأموال العراقية من مطالبات الدول والشركات والافراد الذين يدين لهم العراق بأموال قبل عام 2003 وتقدر بالمليارات.

ويشير هذا الخبير الإستراتيجي بالقول الى أنه لو افترضنا أن الولايات المتحدة رفعت الحصانة عن أموال العراق ووضعت قيودا على ضخ الأموال للبنك المركزي العراقي، فان الإقتصاد العراقي سينهار حتما وسيتبعه تأثر التزام الحكومة بدفع رواتب نحو 7 ملايين موظف وعسكري ومتقاعد، الأمر الذي سيؤدي الى فوضى عارمة في الشارع العراقي قد تؤدي الى إنهيار النظام السياسي الذي أوجده الأميركان بكل عيوبه الكارثية.

ثالثا.. وازاء هذه المعطيات فإن العراق سيدخل مرحلة التقسيم الفعلي والتدخل الإقليمي الواضح مع ما يتبع ذلك من فوضى عارمة وربما لا سمح الله تندلع حربا أهلية لا تبقي ولا تذر.

رابعا.. وهو ينصح الطبقة السياسية الحالية ان أرادت أن تستمر بالحكم فعليها أن تنزل من أبراجها العاجية وتحسب الأمور والعواقب بكل دقة إلا إذا أرادت الهروب الى أمام أو الانتحار.." من وجهة نظره.

وآخرون يرون أن الولايات المتحدة لم تعد أصلا مهتمة بنفط العراق، إذا ما إنسحبت منه وقد تفرض عقوبات دولية على تصدير نفطه، ستؤدي الى شلل العراق كليا، وتحوله الى أكثر بلدان المنطقة فقرا وإنحلالا وتدهورا في سمعته ومكانته بين دول المنطقة.

تلك الرؤى والسيناريوهات يشاركها كل الخبير الأمني أحمد الشريفي والمعارض العراقي أحمد الأبيض. وكان الرجلان قد طرحا عدة سيناريوهات تقترب مما ذكر أعلاه، في أكثر من حوار تلفزيوني، وهما يشيران الى أن الولايات المتحدة لن تترك العراق في كل الأحوال، وتلك الدولة الكبرى التي قطعت آلاف الأميال وقدمت آلاف التضحيات من جنودها وقواتها العسكرية وخسرت عشرات الترليونات من الدولارات ليس بمقدورها أن تسلم العراق لصالح إيران على طبق من ذهب وتنسحب منه، إلا إذا أرادت أن يسير العراق الى الفوضى لتعود اليه بإحتلال آخر قد يكون الأسوأ من السابق في كل الأحوال.

من خلال كل تلك السيناريوهات ووجهات النظر البالغة الأهمية يمكن أن نقول أن بعض تلك السيناريوهات معدة منذ سنوات، ويختمر تطبيقها الآن أكثر من أي وقت مضى، وهو تقسيم العراق الى ثلاث دول، شيعية، سنية، كردية، وفق نظرية بايدن السابقة منذ أن كان نائبا للرئيس الاميركي الأسبق باراك أوباما وهو يحاول تطبيق تلك الاستراتيجية بالتناغم مع الرغبة الصهيونية في تفكيك العراق وتقسيمه، إذا سارت الأمور وفقا لما يخطط له الحاكمون في العراق بطلب رحيل قواته من العراق.

بل وقد يكون سنة العراق ساسة وشعبا ومن ثم كرده في توق شديد لتحقيق تلك الرغبة في الإنفصال، بل هم الآن أكثر ميلا وتقبلا لحالة من هذا النوع، بعد إن وجدوا أنفسهم وهم في طور سحق هويتهم ووجودهم العربي وإستهداف زعاماتهم الواحد بعد الآخر ورفض الإستجابة لما وقعوه معهم من معاهدات وإتفاقات سياسية معهم حتى أداروا لهم ظهورهم، وراحوا يمعنون في تصفيتهم سياسيا الواحد بعد الآخر، في وقت يتعرض الكرد لمحاولات إستهدافهم على أكثر من صعيد، يتبعه تقسيم سوريا نفسها.

ومن وجهة نظر خبراء السياسة المخضرمين أن سيناريوهات تقسيم العراق ستجد قبولا واسعا من طرفين هما بأمس الحاجة الى إعادة الإعتبار لكيانيهما المعرضين للتضييق عليهما في عمليات تغيير ديموغرافي ومالي وسياسي وأمني، حد الرغبة بالإنفصال، وهم يرونها أنها ضرورة، باتت أكثر من أي وقت مضى، والولايات المتحدة ستتناغم مع تلك الرغبات القوية، وستجد فيها فرصتها لاعادة تفتيت العراق وسوريا وحتى إيران في وقت لاحق.

بل أن سنة العراق، وبلا إستثناء، وعلى العلن، يدركون حقيقة أنهم هم أكثر تمسكا بإبقاء القوات الاميركية حاليا لحمايتهم من السلطة المركزية التي حاصرتهم من كل الجهات، وضيقت عليهم الخناق حد أن يطالبوا الأميركان بأن تبقى قواعدها بأراضيهم مقابل توفير الحماية لهم من محاولات الإستهداف التي تعددت أشكالها وألوانها وتوجهاتها، ولم يعد لتك المحافظات ولا لرموزها من وجود مؤثر في سلطة القرار ببغداد، وهم يشعرون أنهم أمام هيمنة إيرانية تريد إكتساحهم، للتواصل جغرافيا مع سوريا، وتكون الأنبار مجرد طريق يوصلهم الى أحلامهم في السيطرة الكلية على مقدرات سوريا، ولبنان، بل أن سنة العراق من وجهة نظر محللين سياسيين كثيرين فقدوا أي أمل بأن الحكومات العراقية المتعاقبة ستعيد لهم إعتبارهم في قادم الأيام.

أما المحلل السياسي محمد السيد فإن من وجهة نظره "أن ساسة السنة هم مشروع للذبح كالخرفان على يد قادة الشيعة، ولن تكون لهم مكانة في ظل هذا النظام السياسي الذي يريد إستباحتهم جميعا."

ويبدو أن الظروف الحالية مهيأة لتحقيق تلك الرغبات بالإنقسام والتشرذم لدى السنة والكرد وحتى الأقليات الأخرى التي تشعر بالتهميش والأقصاء هي الأخرى، وقد تشجعهم على تلك الرغبة دول الخليج نفسها ودول إقليمية، وتقدم دعما قويا لتلك الخطوة، بعد أن شعرت أن الأمور في العراق تسير في إتجاهات لا يمكن فيها ضمان أمن المنطقة وإستقرارها، بل أنه ربما حتى الولايات المتحدة ترى إن وجود عراق قوي لم يعد مطلوبا، إن جرى إبعادها من العراق، وسيسهل عليها الوصول الى حلمها بتفكيك دول المنطقة الى كانتونات طائفية وقومية، وتتمكن من السيطرة على دولها المفككة طائفيا ودينيا ومذهبيا وقوميا، هذه المرة، كما أن دول الخليج الآن هي أكثر رعبا مما تتوقعه للعراق من تطورات مستقبلية.

ويتساءل محللون في نهاية هذا الإستعراض: من سيكون إبن العلقمي الآخر الذي سيسلم مفاتيح العراق على طبق من ذهب للغرباء، كما جرى مع المغول؟ فالأمور بما تسفر عنه من تداعيات يبدو أنها تقترب من هذا المسار بكل تأكيد.