العزلة المرتبكة: حيرة المدن في قراءة سكانها

المدن في عزلتها لم تعد ملهمة مثلما لم يعد البشر قادرين على قراءة مدنهم وكل ما يقدم مجرد بوح ذاتي لا يتخطى حدود الغرف الصغيرة والعالم الرقمي المحصور.
من الحماقة الاعتقاد بأن الحياة ستعود ببساطة إلى ما كانت عليه قبل أن يجبر كورونا البلاد على الإغلاق

على مدى التاريخ كانت المدن هي من تقرأ سكانها عندما تلمهم كأم رؤوم، أو حتى عندما تكون طاردة لهم. لكن تحت وطأة الحجر الصحي، أصيبت متراجحة من يقرأ مَن بالارتباك والضرر، فلا المدن قادرة على قراءة سكانها، بينما قراءة الناس لأحوال المدن تصل عادة متأخرة وغير جديرة بالوفاء، إن لم تحدث ضررا.

لقد ترك الكتاب والشعراء شفاههم على زجاج المدن، منذ أن لعبت الفراشات على لحية والت وايتمان، وأعلنت سلفيا بلاث احتجاجها الشعري على رجال المدن بانتحارها، ولم يجد بدر شاكر السياب في منزل الأقنان ما يجعل البصرة رحيمة به، وجعل جبرا إبراهيم جبرا طرقات المدن مفتوحة من القدس إلى بغداد في “البئر الأولى”.

كانت موسكو بنسائها وكحولها وبردها ومخللاتها ملهمة الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر وهو يكتب سيرة مدينة في “رماد الدرويش”. ثم هل يمكن أن يكون ثمة معادل معاصر لمحمد شكري في طنجة تحت الحجر المنزلي مثلا؟

كان كامل المقهور يستعيد أجواء ضاحية الظهرة وهو يدون لسيرة نادرة لطرابلس الغرب آنذاك، لكن لا معادل للمدن ومدوني سيرها في كل الذي سيكتب تحت وطأة كورونا.

بل إن كل ما كتبه أبوزيان السعدي مثلا كان نتاج ساعات طويلة قضاها في مقاهي تونس يتأمل المارة وكيف تضيع في ضجيج المدينة.

أي مدينة سنجدها عند عبده خال وهو يعيش عزلته لنضعها مقابل مدينة جدة التي كانت “ترمي بشرر”! ومن أين لرجاء عالم من يلهمها سيرة مدينة مثلما فعلت في “طوق الحمام” عندما دونت سيرة جدها الذي كان يجد رزق يومه تحت سجادة صلاته، فحتى مكة ملتقى الثقافات والشغف الروحي أقفلت أبوابها، يكفي هنا أن نعرف أن السعودية غلظت من شدة العقوبات على كل من يكسر الحجر في التجمعات، مهما كان مسوغها الاجتماعي أو الديني.

لم تعد المدن في عزلتها ملهمة، مثلما لم يعد البشر قادرين على قراءة مدنهم، وكل ما يقدم مجرد بوح ذاتي لا يتخطى حدود الغرف الصغيرة والعالم الرقمي المحصور في الكمبيوترات المحمولة.

النظرة المتشائمة التي قدمتها لنا الروائية الإيطالية فرانشيسكا ميلاندري -على أهميتها الإبداعية- لن تدرج في تاريخ الأدب مع الأعمال العظيمة، مع أنها كانت قراءة عميقة للنفس وما يمكن أن تشعر به كاتبة على مستوى ميلاندري، لكنها اكتفت بحدود شقتها في روما وفقدانها للأمل.

ولأنها من بين أوائل الأدباء الذي دونوا سيرتنا الجمعية مع كورونا والحجر المنزلي، صارت مثالا متميزا في قراءة فقداننا متراجحة المكان والمكين.

في الواقع، صنعت هذه الروائية الإيطالية كابوسا لغويا أشد وطأة من فايروس كورونا نفسه، عندما جسدت حياتها المعزولة في إيطاليا، بوصفها متقدمة علينا كابوسياً، مثلما الصين متقدمة على إيطاليا في تفشّي الوباء آنذاك، لتعدنا خلال أسابيع بأن نعيش ما تعيشه هي الآن مثل أي إيطالي آخر.

تكسر فرانشيسكا ميلاندري ثقتنا بالحياة قبل ثقتنا بأقرب الناس إلينا، عندما تعدنا بأن كورونا سيكشف لنا طبائع جميع المحيطين بنا في وضوح ليس مثله وضوح.

بالنسبة إليها أيضا، المثقفون الذين لم تكن تخلو الأخبار منهم سيختفون، وتفقد آراؤهم بغتة أيّ قيمة، البعضهم منهم سيلوذون بمنطق سيأتي مفتقرا تماما إلى الإحساس بالناس فيتوقف الناس عن الإنصات إليهم “والذين كنتم تتجاهلونهم هم الذين سيتبين أنهم يبثون الطمأنينة والسماحة وأنهم أهل للثقة، وعمليون، وقادرون على قراءة المستقبل”.

سنجد معادلا موضوعيا لفرانشيسكا ميلاندري، بنفس المقياس الذي وضعه ت. س. إليوت، في الكاتبة الألمانية هاريت كولر التي عشقت طول حياتها السفر، لكنها ألفت كتابا في الحجر المنزلي تحرض فيه على الاحتفاء بالبقاء في المنزل.

أدركت كولر التي اعتادت السفر كثيرا، في النهاية أن الأمر لا يتعلق بكون الإنسان في مكان آخر فالبقاء في المنزل هو أكثر من مجرد عدم السفر، إنه أسلوب تجاه الحياة. لذلك لم يكن هناك وقت أفضل من الآن لصدور كتابها الذي يتمحور حول البقاء في المنزل.

فإذا كان المرء سعيدا بما لديه فسوف يتوقف عن تمني أن يكون في مكان آخر.

كتبت المؤلفة أن الحنين إلى الوطن وحب السفر عاطفتان متشابهتان للغاية، إن كلاهما لا يتعلقان كثيرا بمكان معين ولكن بشعور داخلي، “إن كلاهما يشيران إلى شيء مفقود”.

وتقول “عشق السفر لا يعني ببساطة أنك تريد أن تكون في مكان آخر، ولكن أنك تريد أن تختبر شيئا مختلفا في مكان آخر للهروب من نفسك اليومية”.

إذا كانت الكتابات قد اكتفت بتلك القراءة المعزولة وهي أشبه ببوح ذاتي، على جماليته وأهميته، في مدونة التاريخ عن كورونا والعزل المنزلي، فإن الأخبار عما أصاب المدن جديرة بإعادة قراءتها اليوم وفي المستقبل. لأنها تمثل الصورة الأوضح عما جرى، وأكثر مما ستصفه المدونة الأدبية.

لقد تحولت المدينة القديمة في تونس التي كانت تكتظ بالساهرين، إلى مدينة أشباح بمحلاتها المغلقة ودروبها الخالية.

ويتأسى أهالي مراكش على ضجيج مدينتهم التاريخي، ويقول أستاذ مدرسة يعيش وحيدا في مراكش لوكالة الصحافة الفرنسية، “كل شيء موجود، لكن في المقابل لا أستطيع التنقل لتناول الإفطار مع والدي”.

ويضيف “الوضع أكثر غرابة في الليل، فلا مقاهي ولا مصلين في المساجد… لم يسبق أن شهدنا هذا”.

وفي لبنان باتت أسطح المباني المزدحمة بخزانات المياه وهوائيات التقاط القنوات الفضائية، في الأسابيع الأخيرة مسرحا لمشاهد غير اعتيادية أبطالها السكان المحجورون المتعطشون إلى الحرية والهواء العليل.

وأمضى مصور وكالة الصحافة الفرنسية جوزف عيد أسابيع في صعود السلالم لاكتشاف الطريقة التي غزا بها السكان هذه المساحة الجديدة مع ما توفره من إمكانات لا متناهية.

أبوظبي عبرت عن ارتياحها من المركبات والناس عندما تنفست ملء رئتيها في أشهر الحجر الصحي، وأعلنت عن تسجيل تحسن مستمر في جودة الهواء مع استمرار الإجراءات الاحترازية للسيطرة على جائحة فايروس كورونا وانخفاض حركة المرور والأنشطة البشرية الأخرى.

في المقابل كشفت كورونا الوجه المشوه والرث للمدن الثرية، ففي جنيف، إحدى أغلى المدن في العالم وقف آلاف الأشخاص في صفوف طويلة للحصول على حصص غذائية مجانية في وقت كشفت فيه أزمة الوباء عن فقراء لا يظهرون عادة في المدينة.

في هذه المدينة السويسرية الشهيرة ببنوكها وصناعة الساعات الفاخرة ومحلاتها الراقية، بدأ الناس بالاصطفاف منذ الساعة الخامسة صباحا للحصول على الطعام، هكذا تساوت المدن، وكأن جنيف صورة طبق الأصل من أي مدينة من مدننا التي يعيش على أطرافها مئات المهجرين!

بينما اكتسب أغلب الفرنسيين وزنا زائدا منذ بدء إجراءات الإغلاق في مارس الماضي، في إشارة ستجعل التاريخ يتحدث عن الفرنسيين البدناء في أشهر كورونا، وليس أولئك الذين يجعلون من الطعام الصحي شعارا يميزهم عن جيرانهم البريطانيين أحفاد شكسبير.

من قال إن نيويورك تنام، حدث ذلك للمرة الأولى تحت وطأة كدمات كورونا عندما أوقفت شبكة المترو رحلاتها الليلية، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ انطلاق الخدمة قبل 115 عاما في نيويورك.

ورغم أن شوارع شيكاغو باتت بجزء كبير منها فارغة بسبب تفشي الوباء، لكن أزيز الرصاص لا يزال يُسمع في بعض الأحياء الأكثر فقرا في المدينة إذ إن الوباء لم ينجح في تطويق آفة جرائم القتل.

حتى تفكير المدن تغير “من قال إنها لا تفكر” صارت تبتكر البدائل حتى وإن تطلب الأمر التنازل عن إبداعها، فقد تحوّل مصنع “بيستري ستار” لإنتاج حشوات المخبوزات الراقية الذي تملكه عائلة بيكو في لوريل بولاية ماريلاند الأميركية إلى ورشة عمل لإنتاج معقمات اليدين في ظل تفشي وباء كورونا.

ماذا عن مستقبل المدن، هل يمكن لها أن تعود كما هي في علاقتها مع البشر؟

تبدو إجابة المهندس المعماري ستيفانو بويري المعروف بتصميمه ناطحات سحاب صديقة للبيئة في ميلانو، أقرب إلى الحقيقة منها إلى قراءة المستقبل، لأنه يرى من الحماقة الاعتقاد بأن الحياة ستعود ببساطة إلى ما كانت عليه قبل أن يجبر كورونا البلاد على الإغلاق.