العزلة قرينة كل من أراد أن يأوي إلى قلبه

الشاعر والمترجم عبدالوهاب الشيخ يؤسس في عزلته "بيت النص".
منذ الربيع العربي لم يقع في يدي عمل أدبي يمكن الإشارة إليه بوصفه تحولا في مسار الشعر أو الرواية
الشاعرات عامة أكثر التفاتا وعكوفا على ما هو شخصي وبالتالي إنساني ويكتبن بيد غير مبتردة دائما
الحركة الثقافية كانت منشغلة بالمهرجانات والمؤتمرات الأدبية التي لا تسفر غالبا عن شيء حقيقي

عزلة كورونا لم تضف جديدا إلى عالم الشاعر والمترجم عبدالوهاب الشيخ، فهو يعيش في إحدى قرى محافظة المنيا بمصر، بعيدا عن صخب المدينة يقرأ ويكتب ويترجم ويتواصل مع العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومشاركاته في المؤتمرات والأمسيات الشعرية والنقدية، قام منذ ما يقرب من عام ونصف العام بإطلاق صفحة "بيت النص" على الفيسبوك، هذه الصفحة التي أضاء بها المشهد الشعري العربي والعالمي دون تحيز إلى مشهد شعري أو شاعر أو قصيدة، احتفى بالشعر والشعر وحده، ومع عزلة كورونا طوَّر الصفحة إلى مدونة وتوسع في الترجمة لكبار الشعراء في العالم، كما توسع في الاحتفاء بكبار الشعراء العرب.
قدم الشيخ عدة دواوين منها "خيط أريادنه"، و"غنوة البجعة"، وترجم مختارات لشاعرات من ألمانيا جاءت بعنوان "نون النسوة الألمانية"، و"رفة جناح" وهي مختارات من شعر ماريان ناكيتش، و"مراثي روما" لجوته. 
حول عزلته مع كورونا والترجمة والشعر ورؤاه وأفكاره كان لنا معه هذا الحوار:
بداية وحول تأثير العزلة على تطوير صفحة "بيت النص" إلى مدونة وكيف أن العزلة أتاحت لك المزيد من الوقت للعودة للترجمة وأبرز ما ترجمت، قال الشيخ: العزلة قرينة كل من أراد أن يأوي إلى قلبه فهي قرينة الشاعر والعاشق والصوفي، ولعلي أخذت بجانب من كل هذا، وهي أيضا خيار تعززه طبيعة المكان حيث الإقامة في قرية بشمال المنيا تجعل بدائل القراءة أو تصفح النت محدودة وأقل إمتاعا. ولكني انشغلت في الفترة الأخيرة بعمل مدونة نشأت عن صفحة "بيت النص" تتجلى فيها خلاصة الإنتاج الأدبي لشعراء الصفحة وتعكس إبداعهم ساعدني التفرغ على إتمامها بمساعدة ابني الأكبر يوسف في المرحلة الإعدادية الذي تولى عني الأمور التقنية.

العمل الثقافي شأنه شأن كل عمل بحاجة لمن يؤمن به كي ينجح ما لم تتسلل المعارف إلى الباطن فتجليه فسيظل الظاهر خادعا لا يكشف عن تغيير حقيقي في بنية المجتمع 

وأشار الشيخ إلى أن فكرة "بيت النص" واتته بعد غلق موقع "جهة الشعر" الشهير والذي كان له دور بارز حتى وقت قريب في التعريف بمنجز الشعر العربي المعاصر بسبب عدم توفر التمويل اللازم لاستمراره. كنت أريد إثبات أن الروح العالية ومحبة الشعر والرغبة في نشره وقراءته يمكن لذلك جميعه أن يعوض النقص في جانب التمويل، وبالفعل أثبتت التجربة ذلك بالتفاف العديد من شعراء وطننا العربي حول الصفحة ودعمهم لها حتى كادت تكون في وقت من الأوقات بمثابة عكاظ شعري كبير يلتقي فيه شعراء من كل قطر ويتعرفون على تجارب بعضهم البعض، وتنشأ بينهم صداقات تغتني بها كتاباتهم. وجل هؤلاء بالطبع كانوا من الأجيال الأحدث، الأكثر تمردا/ والأكثر حاجة لمنصة ثقافية تخرج عبرها تجاربهم.
وكون صفحة "بيت النص" اختصت بقصيدة النثر دون غيرها من الأشكال الشعرية، سألناه عن الأسباب، فقال الشيخ: في الواقع لي ديوانان نثريان أحدهما "خيط أريادنه" والآخر "غنوة البجعة" إلا أنني لا أعتمد شكلا واحدا من أشكال الكتابة الشعرية ولا تتوقف ذائقتي على نوع واحد منها. أؤمن دوما أن السياق الوجداني وحده هو ما يحدد شكل القصيدة ويضبطها، هكذا أتحرك بين الأشكال الشعرية المختلفة دون اهتمام بالموضة الشعرية السائدة وأزعم أن تخلي كثيرين عن كتابة قصيدة التفعيلة أفقدهم شعرية كانت متحققة بالفعل في نصوصهم السابقة.
وأضاف: قناعاتي ربما تختلف عن اتجاهات الشعراء المعاصرين بعد احتلال قصيدة النثر لمتن الكتابة الشعرية وبعد رحيل شعراء التفعيلة الكبار آخرهم محمود درويش وتوقف الأحياء عن إضافة جديد لمنجزهم الشعري، ومع هذا ستجد أن "بيت النص" قد احتفى بتجارب العديد من شعراء التفعيلة وقدم نصوصهم على مدار أيام متواصلة كالسياب وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل ونزار قباني ومحمود درويش، ومن الأحياء درويش الأسيوطي على سبيل المثال. حتى الشعر العمودي ستجد نماذج منه في "بيت النص" باستمرار من خلال شعراء سوريا ومصر والعراق واليمن على وجه التحديد.
ومن خلال تتبعه لمختلف التجارب الشعرية العربية لاحظ الشيخ أنه: كانت هناك فترة تحول فيها كثيرون من كتابة الشعر إلى الرواية مثل إبراهيم نصرالله ومحمد ناجي مع ترويج نقاد كبار لفكرة أننا نعيش في زمن الرواية كل هذا أعطى انطباعا بما أشرت إليه إلا أنني ومن خلال معرفتي بالأدب الغربي أرى أن الحاكم هو التجربة ذاتها التي تقوم باختيار الشكل المناسب لها، هذا مفهوم هيرمان هيسه وجونتر جراس على الأقل، وكلاهما كتب الشعر بجانب القصة، ومثال آخر هاندكه الحاصل على نوبل. 
نعم أرى أن الشعر عائد لتصدر المشهد الأدبي من جديد وهناك العديد من الشعراء الذين استطاعوا لفت الأنظار إلى خصوصية تجاربهم كوديع سعادة ونزيه أبو عفش وزكريا محمد ومحمد آدم ورفعت سلام وصلاح فائق وعلي منصور وعماد أبو صالح ومحمود قرني وإبراهيم داود وإيمان مرسال وكثيرين أخشى أن تفوتني أسماؤهم وهناك أسماء حضورها كبير وفاعل رغم رحيل أصحابها كرياض صالح الحسين وسركون بولص وأمجد ناصر خاصة في ديوانه "حياة كسرد متقطع". 
وإن كان المشهد الأدبي يعاني بوجه عام، فمنذ الربيع العربي لم يقع في يدي عمل أدبي يمكن الإشارة إليه بوصفه تحولا في مسار الشعر أو الرواية. نحن الآن في مخاض كبير أرجو أن يسفر في القريب عن ملامح مختلفة عما كان سائدا بداية من تسعينيات القرن الماضي وما تلاها من سنوات وهذا ما رجوناه في "بيت النص" بالالتفاف حول الشعر ومحبته وفتح كل نوافذه وأبوابه للشعراء من كافة الأجيال.
وأكد الشيخ أن مواقع التواصل الاجتماعي قد سهلت النشر ووفرت الاستجابة السريعة على العمل المنشور وأتاحت للشاعر قطاعا عريضا من القراء قد لا يتوافر في الصحافة الورقية وعددا وافرًا من النصوص والشعراء يتعلم عليهم ومعهم، فجعلت الشعر خبزا يوميا بعد أن كاد يصير كالقرابين المقدسة بين أيدي كهنته من النقاد والشعراء الذين توقفت نصوصهم عن التطور. 
وتحدث الشيخ عن تجربته وانتسابه إلى جيل التسعينيات وانطلاق تجربة قصيدة النثر، قال: أول ديوان لي صدر في 2006 وقد انحسرت موجة كتابة التفاصيل اليومية وموضة المشهدية وغيرها من التقنيات الشعرية التي استهلكها جيل التسعينيات الذي ستجد معظمه في حواراتهم يشيرون بوضوح إلى تأثير عملين أساسيين فيهم: "حياة قرب الأكربول" لسركون بولص، و"بسبب غيمة على الأرجح" لوديع سعادة، مع تنكر ظاهر لبداياتهم التفعيلية إن وجدت على اعتبار أن الشعر قد انتهى عند قصيدة النثر إن لم يكن قد بدأ بها، إلا أن هذا الجيل نفسه هو من رد غربة الشعر وأنزل الشاعر من مقعد التنظير ليفرغ لقصيدته بعيدا عن قيد المقولات الجاهزة والمصطلحات النقدية". 

isolation

وأوضح الشيخ: ترجمت "رفة جناح مختارات من شعر الشاعر الكرواتي ماريان ناكيتش"، جوته صاحب مراثي روما شاعر عظيم تأثرت كثيرا بمراوحته في نصوصه بين ما هو حسي كما في ديوانه "مراثي روما" وما هو روحي في "الديوان الشرقي" وإن كانت حسيته تلك تحمل في باطنها دوما ذاك الحنين الخفي إلى المطلق الذي أمل أنه قد شارف تخومه في نصوص كـ "حنين مقدس" من ديوانه الشرقي. وكل من ترجمت له أحببت في نصوصه شيئا ما. 
الشاعرات عامة أكثر التفاتا وعكوفا على ما هو شخصي وبالتالي إنساني ويكتبن بيد غير مبتردة دائما. وكنت أنحاز في ترجماتي إلى ما هو شعري دوما أضحي بالصياغة البليغة في سبيل ألا أهمل تلك الإشارت الخفية التي يدسها الشاعر في نصه لتعيد صياغة معانيه فتجعلك تعيد قراءته مرة أخرى.
وارتبط الشيخ بالتصوف ليس ارتباط قراءات في كتب التصوف ولكن علاقة روحية ووجدانية في الحياة، وقد لفت إلى تأثير التصوف على تجربتك الشعرية، قال: كلمة المتصوف ذاتها غريبة على أهلها فتجدهم يفضلون كالفقير والسالك فالأصل في التصوف هو نزع كل ما سوى الإسلام لله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم عن أهل الطريق المراد هو رب العباد، لذا نجدهم في كل ما قالوا يتبرأون من كل ما سوى طلب الحق بالحق والافتقار إلى رحمته تعالى والتوسل بحبيبه عليه الصلاة والسلام لبلوغ مبلغ المحبين وهم الربانيون من عباده جل وعلا. لذا فالصوفي الحق لا يهتم بجمع ما ورد على قلبه من واردات إلا إذا أمر بذلك وبعضهم ينهى أتباعه عن كتابة ما يصدر عنه من إشراقات باطنيه باعتبار أن تلك المواجيد سر لا يجب أن يكشف وكنز لا يليق بغير أهله من أرباب المعاني وهم في كل هذا صادرون عن الحق مقتدون بسيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وأكد الشيخ أن الاشتباك مع النصوص الصوفية خاصة في حالة شعراء بحجم أدونيس يغني نصوصهم دون شك لكنه يقف بها دون طرق تلك الأبواب المغلقة على المعاني العظيمة التي امتاح منها المتصوفة الكبار كابن عربي والحلاج والرومي، أنى للشعر الولوج دون فداء وكلهم وهبوا أرواحهم ثمنا لتلك النظرة التي أحالت تربهم تبرا وحجارتهم لآلئ مشعّة لا يفوح المسك حتى يلوح للناظر من فتوح لائح ولا تتفتق بذرة القلب من دون أن يشق الصدر بالجرح والألم. أنى للكاتب عطاء الواهب من دون سعي السالكين وسيرهم سيقف الواقفون على نصوص الحلاج، فلا يشاهدون إلا ظلهم ولا تعكس إلا بواطنهم ليكون لك صفاء الرومي لا يكفي أن تدور مثله ما لم يكن ذلك طوافًا بقلبك.
وأضاف الشيخ: التصوف في بداياته كان أميل للعزلة والتأمل وصوغ المعارف والخبرات الوجدانية في مقولات شديدة التكثيف ثم نشأت الموسوعات الصوفية على يد الحارث المحاسبي، ودوّن العارفون مواجيدهم وواردات قلوبهم حتى جمع الشيخ الأكبر كل علومهم وقعد لها في كتابه الأشهر "الفتوحات المكية" ولم تنشأ الطرق الصوفية كما نعرفها الآن إلا فيما بعد عندما سقطت الخلافة العباسية في بغداد على أيدي التتار وخشية ضياعها اجتمع كل طائفة من المريدين حول شيخهم منادين به خليفة، ولتجنب سطوة الحكام جعلوا تلك الخلافة روحية لا تشمل سلطانا دنيويا ولا يترتب عليه حق من حقوق الولاية. 
وبمرور الوقت صار التفاف المريدين حول شيخهم هو الأصل والعزلة والتنسك تتمان بإرشاده وحده على النهج الأحمدي، وصار المتصوفة أميل لتجنب الحكام إن لم يكن إلى إرضائهم دفعا لتهمة الطمع في الحكم، حتى صار ذلك إلى نوع من الموالاة مع احتجاب شموس العارفين في عصرنا الحالي وقد استغل كارهو التصوف ذلك بجانب ابتلائهم بحب الدنيا وبعض عادات جهالهم للهجوم على الطريق وأهله والادعاء بانحرافهم عن السنة وهم أهلها وتنكبهم الطريق وهم أصحابه. لا مراء الدعوة إلى الله بحاجة لروح عظيمة تهب نفسها لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولخدمة الناس. دون تلك الروح لن يعود الطريق لأهله ولن تشرق شمس الحقيقة في هياكل السالكين. 
وحول رؤيته للحراك الثقافي عموما وأثره على جنوب مصر خاصة، قال الشيخ: بعد ثورة يناير في مصر اعتزلت تقريبا كل الأنشطة الثقافية بعد لحظة فارقة رجوت أن تجلو باطني بعيدا عن صراعات الكتاب وطموحاتهم بعد أن انتقل المعنى من الكتاب إلى الشارع والأمل من شيوخ المفكرين إلى الشباب في الميادين. في رأيي العمل الثقافي شأنه شأن كل عمل بحاجة لمن يؤمن به كي ينجح ما لم تتسلل المعارف إلى الباطن فتجليه فسيظل الظاهر خادعا لا يكشف عن تغيير حقيقي في بنية المجتمع أو نظرته للأمور وستظل الحركة الثقافية منشغلة بالمهرجانات والمؤتمرات الأدبية التي لا تسفر غالبا عن شيء حقيقي. 
أما عن الجنوب وبعد ثورة الاتصالات خاصة فهناك أدباء وشعراء متحققون فرضوا نفسهم على العاصمة ومن فيها ولايزالون يقيمون بقراهم ومدنهم الجنوبية منهم القاص المبدع أحمد أبو خنيجر والشاعران المعروفان فتحي عبدالسميع ومؤمن سمير.