الفلسفة وفن توليد الحقيقة

تعبيد الطريق أمام المنطق والتفكير في الأشياء غير المألوفة حتى يكتشف الإنسان ما يسكنه من أوهام وترسبات المعارف الجاهزة.
تتغير المواقف بتبدل علاقة التأثر بالنماذج السابقة نحو عملية النقد والتجاوز
سقراط من الأمثلة الساطعة في تاريخ الفلسفة، فيلسوف الفلاسفة ومنعطف في مسار التفكير

الفلسفة نشاط فكري وعقلي، تأمل في الوجود الطبيعي والإنساني، نوع من المتعة والشغف الفكري، رغبة الإنسان في المعرفة لأجل إزالة اللبس والغموض عن الحياة والعالم. لا تدعي الفلسفة أنها تمتلك الحقيقة، بل أنها في سعي دائم نحوها، جوهرها السؤال، غاياتها الفهم الصحيح وعدم الاكتفاء بالمألوف من الأجوبة، تقدم معطيات وآراء نسبية وتكرس للاختلاف والتعدد، لكنها تزيح النقاب عن الأشياء الغامضة عندما يقدم الفيلسوف رؤى عن العالم من خلال القدرة على إثارة السؤال، وتحويل الأفكار من الذات نحو الطبيعة، أو العكس، الاتجاه نحو الأعماق في محاولة سبر الأغوار وزحزحة الممكن في أمل أن تكون الفلسفة خير معبر عن الممكن، طموح الإنسان ورغبته في الفهم، وتجديد آليات التقصي للحقائق أهداف صريحة ومعلنة. 
سقراط من الأمثلة الساطعة في تاريخ الفلسفة، فيلسوف الفلاسفة ومنعطف في مسار التفكير، من طينة الكبار في توليد الأفكار، وتسخير منهجه المناسب في تعليم الشباب الأثيني الفضيلة وطرق توليد الحقيقة، يجيد النقد والتفنيد، يلح في خلق التوتر بين الإنسان وذاته، ومن ثمة تحويل التفكير من الوجود المادي نحو داخل الإنسان في أسمى فكرة عن معرفة الإنسان لذاته. فالحقيقة هنا ليست في العالم الخارجي، والمعرفة كلها لا تأتي من خارج الذات، بل موجود فينا وقابعة في نفوسنا، ويكفي أن نتأملها ونعثر على ما بداخلنا من كنوز المعارف إيمانا بالفكرة التي كان يرددها أفلاطون على لسان سقراط: إن المعرفة تذكر والجهل نسيان.

يمكن اعتبار لحظة سقراط فريدة في تعلم الحقيقة، وتلقين فن توليدها من الذات بدون مغالطات

من عالم الظواهر والحقائق المزيفة لا تتبلور الحقيقة، ولا تنكشف لذاتها، لأنها محجوبة وتتوارى خلف أقنعة، مردها للغة الملتوية والألفاظ المبهمة، وقلة التعريفات الدقيقة للمفاهيم، واللعب بالكلمات وتمرير المغالطات، أو التسرع في إصدار الأحكام عندما تبنى المعرفة على الحواس وحدها دون إعمال العقل. تعبيد الطريق أمام المنطق والتفكير في الأشياء غير المألوفة حتى يكتشف الإنسان ما يسكنه من أوهام وترسبات المعارف الجاهزة. 
توليد الأفكار لا يأتي دائما بدون جهد أو تأملات شاقة، لكنه تمرين للعقل وتمرسه في النقد والتحليل والمناقشة، توليد يتولد عنه خلخلة الثابت، وجر الفكر للقبول بالآراء المضادة والمخالفة، ورسم ممكنات من خلال الجدل الصاعد كما نلمس ذلك عند أفلاطون بين عالم المثل وعالم الحواس، وتوظيفه لأسطورة الكهف، في خروج الإنسان من القصور المعرفي نحو عالم الماهيات والحقائق الأزلية السرمدية. 
خروج الفيلسوف من متاهة التفكير الضيق إلى رحاب أوسع للتفكير في الجواهر والحقائق الثابتة، صعود في درجات المعرفة وارتقاء من الحقائق المزيفة نحو اليقين. فن توليد الأفكار من خلال السؤال والتهكم في طريقة سقراط التوليدية، والاختيار بين طريق الحواس والظن وطريق العقل عند بارميندس، التفكير الاعتيادي عادة ما يعيد إنتاج ذاته، أوهام المعرفة الثابتة لم تكن مفيدة في تقدم العلم وبناء طرائق جديدة للتفكير الفلسفي، الحقيقة كما تقدم نفسها ليست سوى معارف يدركها الإنسان وتجارب واقعية وكل ما يتعلق بالصور المجردة والحسية، ليست منفصلة عن المعرفة والسلطة في تعريف ميشيل فوكو للمعنى الآخر للحقيقة في عالم معقد ومركب، عالم تتحكم فيه البنيات، والإنسان كائن منفعل وسط الأشياء والكلمات، يحاول منح الدلالة والمعنى للأشياء عندما ينتج خطابا، صناعة الحقيقة أو على الأقل، بناؤها يتماشى مع العصر وتجلياته، بناء على آليات وتقنيات مناسبة، وإستراتيجية كل مجتمع في إنتاجها وإعادة توزيعها، ليست هناك حقائق بل هناك تأويلات، فكرة نيتشه التي تعني الإجهاز على المعنى الكلاسيكي للحقيقة، عندما يتمكن الإنسان من تحطيم الثابت من تاريخ الفلسفة، وعدم التسليم بالشيء في ذاته، وأن الحياة معيار ومقياس للحقيقة، ولا تنكشف إلا بالكشف عن أضدادها .
 لا تبنى الحقيقة دفعة واحدة، ولا تترسخ في الذهن إلا بعد محاولات مهمة في الرقي بالذات نحو المعارف الحقيقية، عالم الكهف لا يعني سوى الأوهام التي تغلغلت وتشكلت في ذهن الإنسان من شدة اعتقاده بالحقيقة الكاملة، قيود المعرفة تعني القصور والضعف في التجاوز والارتقاء من الحقائق المزيفة نحو الحقائق الثابتة، السير نحو الماهيات والجواهر والشك في اليقين الذي تولد من جراء هذا القصور المعرفي، وغياب المرشد أو المعلم الذي يلقن الصواب والمفيد، ويرشدك نحو الحقائق، لا تجعلك الفلسفة تسلم باليقين دون المرور عبر تجربة الشك أو وضع القضايا موضع التساؤل. 
فن توليد الأفكار يستند بالدرجة الأولى في الارتداد والعودة نحو الذات، هناك حقائق  بديهية، ومعارف منغرسة في أعماقنا، يستدعي من الفيلسوف حسن الإصغاء للذات، واستخراج الفكر بوصفه ماهية، الفكرة الواضحة والبديهية منطبعة في النفس، وعندما يعود الإنسان لذاته، يولد الأفكار من النفس بالتأمل والاستنباط، لا نحتاج لمصباح "ديوجين" لاستنارة الحقيقة، البحث عن الحقيقة ليس بالفانوس في شمس ساطعة على طريقة ديوجين، لأن الإنسان يهتدي للحقيقة عندما يعثر على الفكرة البديهية، يعني التسليم بقدرة الذات على التفكير كما قال ديكارت، فن توليد الحقيقة أشبه برجل يسير وحده في الظلمات سيرا بطيئا مسترشدا بالمنهج، التريث والحيطة من الأفكار الجاهزة، ومن التسرع في الأحكام غالبا ما يقود إلى الخطأ، ولا يؤسس لليقين المعرفي، فكرة ديكارت كانت تعني التدرج في بناء المعرفة من جهة، والبحث عن الحقيقة في الذات من جهة أخرى، نقطة جوهرية في صلابة الأفكار، وتوليدها من الداخل والعبور من الذات نحو الطبيعة، والاستناد على العقل كأداة في تطويع الطبيعة وإرغامها على الامتثال، وبالتالي فُتح عصر جديد قوامه الاكتشاف والتغيير، هكذا يعثر ديكارت على الحقيقة في ذاته بعد تجربة الشك الطويلة، والتجرد من المعرفة الحسية وكل الأفكار الجاهزة، ارتقاء في درجة المعرفة، وصعود في اختيار الأدوات الممكنة في بلوغ اليقين، من هنا كانت الفلسفة في تاريخها الطويلة تولي أهمية بالغة للتفكير الذي ينطلق من الذات، وللحقيقة الذاتية قبل الانطلاق نحو العالم الخارجي. 

بقي التطابق بين الفكر وذاته علامة مميزة في الإقرار بالبداهة واليقين، لكننا عندما نعود للوراء، وبناء على فن توليد الأفكار والحقائق، نجد الفيلسوف سقراط أوضح النماذج في الفكر الفلسفي، رغم أن الفيلسوف لم يكتب أي شيء، شدة ولعه بالحقيقة والمعرفة جعله معلما كبيرا وملهما للكثير من الفلاسفة.
فن توليد الأفكار من خلال عودة الإنسان لذاته، ومعرفة ما يكنزه من أسرار وحقائق تشكل منطق الفلسفة والتفلسف، رغبة الإنسان في تمرين الفكر على استخلاص الأفكار، لا تعني الاستكانة والقبول بالجاهز، بل يحتاج الإنسان إلى معلم ومرشد من طينة الكبار كسقراط مثلا في الفحص والتنبيه لكل محب للحكمة، أو استلهام التفكير الصائب وآليات التفلسف في عملية صعبة وشاقة تبدأ من السؤال والشك وتنتهي إلى توليد الحقيقة، ميلاد التفكير الفلسفي في بعده الذاتي والموضوعي ينم عن الإبداع والابتكار كذلك في خلق المفاهيم المتميزة وإلباسها دلالات مختلفة، لا تعني التماهي مع مواقف السابقين من الفلاسفة والسقوط في التبعية العمياء، ولا تعني الارتماء في حضن الفيلسوف والسير على طريقته بشكل مباشر، هذا النوع من التعاطي مع الفكر الفلسفي أو الشخصيات الفلسفية يولد فينا تبعية مباشرة وانغماس في الشخصية على طريقة ما يرمي إليه الفيلسوف الفرنسي دولوز من خلال نماذج معينة في علاقة المعلم بأتباعه، لا يكون الفيلسوف نسخة مطابقة لغيره، الفيلسوف هنا منتج للحقيقة والمعرفة، يمنح المعنى للمفاهيم، ويولد تفكيرا مغايرا ولا متشابها لأن الفلسفة في تعريفها الآني حسب دولوز ما هي إلا إبداع للمفاهيم.
تتغير المواقف بتبدل علاقة التأثر بالنماذج السابقة نحو عملية النقد والتجاوز، الانطلاق من جديد في رسم عالم ممكن للفكر والحقيقة، إما بالنقد وتوليد الفكر الجديد من القديم أو المسح النهائي للترسبات العالقة من أقوال ومواقف الفلاسفة، الأمر هنا ينطوي على صعوبة تتعلق بمدى تجاوز الفلاسفة للتفكير السابق، والانفصال النهائي بين تفكير اليوم والأمس، فهل قطع الفكر الفلسفي المعاصر مع نيتشه؟ وهل انتهى الفلاسفة من الحوار المباشر مع ديكارت؟ وهل هناك تجديد في الفلسفة الإسلامية مثلا دون العود للأصول؟ 
ابن رشد والرشدية علامة على ذلك، الفارابي وحلم المدينة الفاضلة، كانط والكانطيون الجدد، المفاهيم موجودة ومستمرة، والقطع هنا لا يعني القطيعة النهائية إنما تجديد آليات الإنتاج المعرفي للقضايا والإشكالات الجديدة بأدوات مناسبة، فلا يخلو منطق الفلسفة من السؤال والتساؤل، ويمكن التماس التحليل والحوار والنقد والشك وكلها آليات مهمة في توليد الحقيقة. وهنا قدمت الفلسفة بالفعل طرائق متميزة في سبر أغوار الذات، ونقل المعرفة الخالصة من الذات نحو الموضوعات الخارجية، وعملت على مسايرة إيقاع الواقع ودينامية الحياة. فالحقيقة كما بين كانط في فلسفته النقدية بناء، فن توليدها عند سقراط يستند على جهد ذهني، وتفكير تأملي في استخراج كل الحقائق بآليات السؤال والحوار والتهكم، وذلك قصد فحص الأفكار للتمييز بين الفكر الأصيل والفكر المزيف. هكذا يمكن اعتبار لحظة سقراط فريدة في تعلم الحقيقة، وتلقين فن توليدها من الذات بدون مغالطات.