القمع الثوري وبناء الحرية

لا يمكن بناء حكم ديمقراطي من دون بنية تحتية متماسكة تؤسس له.

سؤال قد يفكر فيه البعض: هل يمكن فرض الحرية بالقمع الثوري؟ بداية الانسان مخلوق متكيف وعاش في ظل أبشع النظم وأكثرها معاداة للحرية، ابتداء بالقبائل البدائية التي لا تزال موجودة حتى اليوم في افريقيا واسيا ويعيش الانسان فيها في اطار فقاعة ونطاق محدود يستغنى به عن الحرية والحقيقة. فاذا كان الانسان مجبولا على التكيف والتعايش والانسجام مع بيئات بدائية ومتخلفة فلماذا لا يمكنه التكيف مع الحرية كنظام قاهر محمي بقوة ثورية قامعة؟

لا شك انه من الممكن هذا الافتراض، ولكن فرصة نشوء مثل هذا النظام في الكثير من بيئات العالم محدودة وأحداث ما عرف بالربيع العربي عام 2011 دليلا واضحا على ذلك.

تركيا قبل الجمهورية لم تكن دولة ثيوقراطية ومجتمع ديني، ولكن كانت الدولة في النهاية دولة تقوم على اسس دينية عميقة. فالسلطان كان يعد خليفة المسلمين، ولكن بعد قدوم العسكر بقيادة اتاتورك تمكنوا بسهولة من فرض نظام علماني صارم وذلك بسبب انهيار الدولة العثمانية والاسس التي تقوم عليها التي في مقدمتها زعامة المسلمين.

كذلك كان المجتمع الايراني أكثر تحررا وأكثر علمانية منه قبل الثورة. ورغم تطبع الحياة في ايران بالتدين بحكم حكم الاسلاميين الا انه تطبع مفروض بالقوة لا يعبر عن طبيعة المجتمع الايراني التواقة للحريات المدنية.

في العراق حوالي الخمسين عاما من حكم البعث ومحاربة البيئة الدينية وتطبع مظاهر الحياة بأيدولوجية البعث الا انه بمجرد سقوط نظام صدام عادت البيئة الدينية الى حيويتها ومدها الهائل وانتجت سنوات القهر تيارات دينية أكثر تطرفا وتشددا.

لا شك انه يمكن فرض نظام على مجتمع ما وجعله بالقوة القامعة يتكيف ويتعايش معه في حال توفر عوامل محددة من اهمها تناغم مصالحه وتراثه وتاريخه معها بحيث تستفيد منه القوى الأكثر سيطرة ونفوذا من فئاته وشرائحه وطبقاته بحيث ترتبط به وتربط مصيرها بمصيره، والفئات الا ضعف منها ترتبط هي الأخرى بها وتربط مكاسبها بولائها لها، وهذا سبب فشل أكثر الثورات في العالم الثالث اذ سرعان ما يعاد انتاج الاستبداد مرة أخرى بأشكال وصور مختلفة.

في المقابل الانسان قد يتكيف، ولكنه في باطنه يظل يرفض البيئة الاستبدادية المفروضة عليه، كشعب كوريا الشمالية مثلا، بالرغم من تسلط النظام الكوري الذي يدرك جيدا انه يحكم شعبه بأشد ما يكون من الطغيان حيث يكبلهم بشتى القيود وافدح القوانين وأكثرها انتهاكا وظلما للإنسان، ولا ادل على هذا الرفض هو ظاهرة هروب المواطنين الكوريين الشماليين من جحيم حكم نظام بيونج بيانج، بينما لم يحدث ان طلب مواطنون من الجنوب الكوري الديمقراطي اللجوء للدولة الكورية الشمالية.

التجربة العربية مع قدوم الاسلام ملهمة بكل المقاييس فقد تمكن من نقل المجتمع العربي نقلة نوعية عظيمة، لذلك امنت به القبائل العربية اذ نقلها من التشرذم الى الانضمام تحت لواء دولة عربية واحد لأول مرة في تاريخ العرب، ودين مركزي تعتنقه الأغلبية، مما جعل الكثير من شرائح وفئات وطبقات المجتمع العربي تغنم منه مغانم جمة، مما ساهم في سيادته بسرعة وتحوله الى قاعدة أساسية في البيئة العربية.

في اريتريا ناضل الاريتريون أكثر من عشرين عاما ضد الاحتلال الاثيوبي ولكنهم فشلوا في بناء دولة مدنية فقد سيطر المناضل السابق اسياسي افورقي على السلطة وانشأ نظاما شموليا قمعيا، تكيف معه الشعب الاريتري ولكنه لم يقبل به لانه ضد مصالح وحقوق اغلبية الشعب، الا انه مجبر على التكيف معه بسبب قوة النظام الاريتري وقبضته الحديدية على الحكم وولاء القوى القبلية له، ونتيجة لذلك فأن الشباب الاريتري يعدون من ابرز الفارين وطالبي اللجوء في افريقيا واوروبا.

في اوروبا لم يحدث ان فرضت العلمانية بقوة ثورية حيث كانت النقلة من الاستبداد الى المدنية والنظام الدستوري على مراحل بحيث كلما انحل جزء من البيئة الاستبدادية كلما زادت قوة العلمانية وهكذا حتى سقط النظام الاستبدادي وحل محله النظام العلماني الدستوري، أي ان التغيير لم يكن راديكاليا، بخلاف بعض دول اوروبا الشرقية في اواخر الثمانينات، حيث انهارت الانظمة الشمولية في دول مثل المانيا الشرقية وليتوانيا وبولندا، وتم الانتقال الى الديمقراطية بعد ان تهيئة الارضية لقيامها على ارض الواقع خلال عقود من الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي. وما يحدث في اوكرانيا اليوم هو محاولة يائسة لإسقاط نظامها الديمقراطي الناشئ وإقامة بلد شمولي موال لروسيا والمعسكر الشرقي التي تحاول اعادة انشائه مرة اخرى.

واليوم وبعد اقل من مائة عام على ظهور الديمقراطية كنظام حكم قصير نسبيا، ولكنه حقق مكاسب جمة وترسخ في العديد من البلدان، وأي محاولة لتغييره سوف يواجه بتصدي اغلبية شعوبها لكونه قد حقق مكاسب عظيمة على مختلف الاتجاهات والاصعدة.

في اليمن مثلا بعد سقوط نظام علي عبدالله صالح وتولي نائبه الرئيس عبد ربه منصور مقاليد الدولة اجتمعت القوى اليمنية واتفقت على الانتقال للنظام الفيدرالي واصدر عبد ربه مرسوما جمهوريا به فعلا. الجنوبيون تحديدا كانوا الغانم الاكبر من هذا التحول لذلك ايدوه لأنه سيعني انهاء سيطرة الشماليين على مناطقهم، الا ان الشماليين كانوا اكثر المتضررين فقد كانوا يمسكون بمقاليد السلطة وقيادة الدولة لذلك انقلبوا عليه ولم يكن الرئيس صالح يمانع من التحالف مع اعداء الامس القريب الحوثيين بل وتسليم الجيش لهم ومؤسسات الدولة في الشمال في سبيل الانتقام من اعدائه وفي سبيل هدف اعمق وهو بقاء اليمن تحت سيطرة الشمالية الزيدية.

وكان من ابرز اسباب سقوط الامويين وتزعزع سلطة العرب في الدولة العربية الاسلامية ومشاركة الموالي لهم في الحكم لاسيما الفرس هو تهميش الموالي الواسع النطاق، فاستعان بهم العباسيون، مما مكنهم من شق طريقهم نحو السلطة والنفوذ والقوة في دولة العباسيين وتحولوا من فئة مهمشة ومسحوقة الى اعلى مراتب السلطة وصحبة الخلفاء. بيد ان الموالي عمدوا الى المشاركة في ادارة البيئة العربية القائمة على التسلط والاستبداد والتحول الى لاعبين مؤثرين في ساحتها الواسعة، مما ادى في النهاية الى رفعة شأن الموالي في مجتمع الدولة العباسية وتحولهم الى فئة قوية ومؤثرة بعد ان كانت مهمشة في العهد الاموي.

وقد اندلعت ثورات في العهد العباسي تنادي بإصلاحات جوهرية وتغييرات واسعة النطاق كثورة الزنج في جنوب العراق والحركة القرمطية إلا انها في النهاية لم تخرج عن نطاق البيئة العربية ونظامها القائم على الاستبداد والتسلط.

من ناحية اخرى يؤكد التاريخ ان الاستبداد تقوده فئة او جماعة بناء على رضوخ عميق وغير مباشر من مختلف الفئات والطبقات والشرائح الاجتماعية والقوى الفاعلة. لذلك قيل في امثال العرب الناس على دين ملوكها وكيف تكونوا يولى عليكم، بينما النضال في سبيل التغيير يشق من خلال مواجهة القوى التسلطية ومحاولة تدمير مصالحها المتشابكة، وكلما تضاءل نفوذها انحسرت سلطتها وقل اتباعها، مما يزيد من نفوذ قوى التغيير التي تناضل من خلال شق طريق مضنٍ وعسير، وذلك بسبب ترسخ نظم الاستبداد والتسلط على معظم مؤسسات المجتمع وسيادته الثقافية والقيمية.

بيد ان نظم الاستبداد راسخة وجاهزة لذلك فانه من السهل جدا اعادة انتاج الاستبداد في أي نظام ينهار. حدث هذا بكل انسيابية في انتقال السلطة من الامويين الى العباسيين، وفي كثير من الامم فعندما سقط النظام القيصري جاء بعده الاتحاد السوفييتي بنظامه الشيوعي الطاغي، وعندما أسقط ثوار كوبا الشيوعيون النظام الكوبي الموالي للأميركيين اسسوا نظاما حديديا تسبب في هروب الاف المواطنين ودمار شامل في ظل نظام قمعي تسلطي لا تزال كوبا تعاني منه حتى اليوم.

ان فشل الانتقال الديمقراطي في كافة البلدان العربية التي شهدت ثورات ما عرف بالربيع العربي عام 2011 وكذلك فشلت التجربة في العراق وأفغانستان يعود الى عدم وجود أي بنية تحتية للديمقراطية كنظام وثقافة وإدارة وأسلوب حياة، لا في النظام السياسي او الطبقة السياسية فقط بل الى ضعفها في أعماق المجتمع وطبقاته وشرائحه، بينما يتمتع الاستبداد ببنى تحتية ضخمة تمتد لمئات ان لم يكن الاف السنين، وراسخة رسوخ هائلا على كافة اصعدة الحضارة والحياة البشرية في العالم الثالث بشكل خاص.

هذا لا ينفي انعدام القوى المدنية التي يؤمن افرادها بالنظام المدني الا ان العالم العربي تحديدا والعالم الثالث بشكل عام لا يمتلك أي بنى تحتية حقيقية من خلالها يمكن التأسيس لبيئة مدنية مستقرة، هذا ما حدث في أفغانستان حيث لم تنجح عشرون عاما ما بين حكم طالبان الأول والثاني من انشاء نظام ثابت تسود فيه المدنية من خلال هيبة الدولة وسيادة القانون، هذا ما كان من امر العراق أيضا فبعد اكثر من خمسين عاما من الانقلاب على الملكية الدستورية والحكم الديكتاتوري لم يتمكن العراقيون من تأسيس نظام حكم مدني حقيقي وتعاني البلاد من ضعف نظام الدولة وهشاشة بيئتها الوطنية.

ان الحرية تحتاج الى بناء فوقي ومرحلي حتى تصل الى مرحلة الترسيخ وهذا يتطلب عقودا لا سنوات محدودة، ولا يمكن بنائها الا بالقمع الثوري التسلطي لتترسخ. لا سبيل الى الحرية الا بفرض الحرية، وبنائها وفرضها بقمع ثوري تسلطي، فالشعوب التي تكيفت مع الاستبداد والنظم التسلطية والبيئة الشمولية لا شك انه يمكن ان تتكيف، بل وتنسجم مع البيئة المدنية ولكن يجب ان تفرض عليها هذه البيئة بالقوة القاهرة المصاحبة لإصلاح مرحلي متأني هادئ في بعض الاصعدة واصلاح راديكالي على اصعدة اخرى.

ومع تحقيق العديد من فئات وشرائح المجتمع مكاسب من النظام المدني سوف يتوسع اكثر، ومع مداراة القوى القديمة والشراح التقليدية بحيث يراعى ان تكون خسائرها لامتيازاتها محدودة وفتح المجال امامها للاندماج النسبي مع النظام الجديد لضمان عدم انقلابها عليه، كما كان من امر القوى الدينية في اوروبا، حيث لم تجرد الا من سلطتها الزمنية فقط، مع اتاحة المجال الواسع لها للاستمرار في البقاء كقوى مدنية من خلال هامش الحريات الواسع النطاق الذي يوفره لها النظام المدني، وروعيت مصالح العائلات الملكية والإقطاعيين والبرجوازيين واتباعهم بحيث تمكنوا من الانسجام مع البيئة العلمانية فتحولت الملكيات التقليدية الى ملكيات دستورية، وإتاحة الرأسمالية الفرص الكبيرة لجني الأرباح دون الاستئثار بالثروة وانتهاك حقوق العمال والطبقات محدودة الدخل.

بيد ان فرصة تغلب فئة مدنية تبقى ضئيلة بسبب ضعف البنى التحتية المدنية في مقابل بنى الاستبداد الضخمة بل والهائلة والامثلة كثيرة جدا لا تكاد تحصى. فمن انقلاب الضباط الاحرار في مصر 1954 حيث طالب اللواء محمد نجيب بتسليم السلطة للمدنيين فانقلب عليه رفاقه ووضعوه في الاقامة الجبرية لعقود، وكذا كان الانقلاب في ليبيا الذي جعل من عائلة القذافي عائلة مالكة بدلا من العائلة السنوسية التي انقلب عليها، وفشل المدنيون في حكم السودان وانقلاب العسكر المتكرر ضدهم، مما يتطلب ان تشق القوى المدنية طريقها في مناطق الاستبداد المظلمة وحقول الغامها المدمرة وربما تتوقف عند مرحلة معينة ولا تستطيع الاستمرار الا ان الصراع بين الحرية والاستبداد سيبقى مفتوحا وستظل الحرية اصل وجوهر الحضارة الانسانية.