غزة والهايدبارك

يدرك الإسرائيليون أن وجودهم لا يحتمل اخفاقا أمنيا واحدا يرتكبونه أمام امة المليارين.

عندما وطأت قدمي ركن المتكلمين في الهايدبارك، كانت معركة غزة او "طوفان الأقصى" كما اطلقت عليها حماس او "السيوف الحديدية" كما اسمتها اسرائيل قد بدأت. كنت اترقب عرب مختلفين في الهايدبارك ولندن والغرب، عرب عاشوا في هذه البلاد وتأثروا بها، لاسيما في مضمار التنظيم الخلاب للتباينات الروحية والدينية والعرقية والجندرية وإعادة توظيف التقدم في بلدان المهجر في حياة الجاليات العربية، بحيث تكون طلائع لنخب عربية واعدة. إلا اني وجدت عربا يعيشون بأجسادهم فقط في الغرب. اما العقل العربي فهو كما في الشرق لم تتغير قواعده الذي تقوم على السلفية والماضوية وتقديس التراث. كانت كافة القضايا التي طرحت في ركن المتكلمين تنتهي بالهوية الطائفية وتختم بالانتماء المذهبي، بما فيها قضية فلسطين وغزة. فكانت كل جماعة توصم الاخرى بشتى التهم. لم يسلم احد من احد في حقيقة الامر، عدا ان العربي كعادته يستخدم الى جانب لسانه يديه، فالعراك كاد يقع بين داعيتين، بينما كان كل من شاهدتهم من غير العرب يناقشون قضاياهم بهدوء.

حتى الحوارات الثقافية والعلمية ان صح التعبير سرعان ما تميل الى النزعة المذهبية. كنت أقول لأحدهم اننا يجب ان نتجاوزها فنحن في وضع عصيب وان على الجميع التعاون من اجل وقف عداد الموت في غزة، حكومات وشعوب دون استثناء، في البلدان الام او المهجر. الا ان الثقافة التقليدية والبيئة المحيطة اشبه بعالم افتراضي يعيش فيه المرء، لا يستطيع الخروج منها بل انه يعتبرها عالمه الحقيقي والواقعي، ولا يدرك ان في الأفق القريب عالما أوسع وأرحب وآفاقا اعلى واكثر بهاء. لقد ادركت ان تطلعاتي كانت محض وهم، فالعرب بنسبة كبيرة منهم في تلك البلدان منعزلون عن بيئتهم الحاضنة. ومع وجود تواصل قوي مع البلدان الام بأحدث طرق الاتصال الحديثة التي تساهم في تدفق ضخم للمعلومات والأفكار والآراء مما سهل على العربي في دولة المهجر ان يعيش ثقافته الخاصة ومحيطه الاجتماعي بحيث يكون تأثره بثقافة المجتمع المضيف محدود. ولعل التحاق اعداد من المواطنين العرب والمسلمين من المقيمين في البلدان الاوروبية بداعش يدل على ذلك. ولم اكن لأنسى ذلك المواطن العربي الذي قدم من النرويج بصحبة ابنه تاركا وراءه كل ما كان يعيشه من امان واستقرار وحرية ورفاه ليستبدلها بدولة داعش قائلا بأنه يريد العيش في دولة إسلامية حقيقية! فكافة الدول العربية والإسلامية لم تكن لترضي طموحه الكبير! لأنه يبحث عن نموذج اسلامي حقيقي يقضي فيه بقية حياته، نابذا وراء ظهره اكثر من ثلاثين عاما قضاها في النرويج متمتعا بحرياته الدينية والروحية والقيمية. ان هذا جزء من تركيبة العقل العربي القائمة على التوتاليتارية والإيمان بالشمولية الابوية البطريكية.

ان اسرائيل تقع تقريبا وسط العالمين العربي والإسلامي. انها محاطة بالعرب من كافة الاتجاهات، على مساحة 14 مليون كيلومتر مربع، وجزء من محيط اسلامي عملاق يبدا من المغرب وينتهي في اندونيسيا، حيث اكثر من 60 دولة عربية وإسلامية. تأسست الدولة العبرية بعد حرب 1948 التي ادت الى تهجير الاف الفلسطينيين. وقد سكن الاف اليهود الذين قدموا من مختلف دول العالم مكانهم. ان الاسرائيلي الذي يعيش في جزيرة صغيرة وسط محيط اسلامي عربي ضخم يتمنى في اعماق اعماقه ان يتفتت العالم العربي الى كانتونات عرقية وقومية عبر تجزئة المجزأ. فهو لا يكفيه ان يبقى العرب دولا مستقلة نشأت بعد انهيار الدولة العثمانية وانسحاب الاستعمار الأوروبي. ففي دواخله باعتباره ينتمي لكيان محدود وهش، أن ثمة هزيمة واحدة فقط كافية لتعرضه للانهيار. انه يسعى إلى ان يتخلص من واقع النقص والضعف الذي يعاني منه فهو يعلم انه من دون دعم الغرب الأوروبي والاميركي لن يستطيع البقاء والاستمرار على هذه الأرض وسط وجود عربي راسخ يحيط به من كل اتجاه.

عندما اعلن إقليم كردستان العراق ان الانفصال هو نتيجة الاستفتاء الذي أجرته حكومة الإقليم، كانت إسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي أعلنت تأييدها لحق الاكراد في الاستقلال وتأسيس دولة مستقلة، رغم انها تحتل ارض شعب اخر بموجب القانون الدولي وتمنعه من حق تقرير مصيره وحقه في تأسيس دولته المستقلة على ارضه التاريخية!

الإسرائيلي يتمنى ان يرى العراق وقد انقسم الى ثلاث دول، شيعية وسنية وكردية، وسوريا أيضا علوية وسنية وكردية، ومصر الى عربية وقبطية، ودول المغرب الى عربية وأمازيغية. ان هذا ما يتمناه الاسرائيلي في اعماقه وان لم يصرح به، حتى يسد عقدة نقصه ويجبر ضعفه. انه يتوق لرؤية العالم العربي وشعوبه التي تناصبه العداء وقد انقسمت اكثر وأكثر وتحولت الى كيانات اكثر ضعفا وهشاشة، لكي لا يظل كيانا شاذا يعيش بين امة فرض عليها بالقوة القاهرة.

من المعروف ان الإسرائيليين جاءوا من عدة بلدان ومناطق في اسيا وأوروبا والشرق الاوسط واندمجوا من خلال الانتماء لدولة إسرائيل وأعادوا احياء اللغة العبرية. وحتى اليوم فأن نسبة كبيرة من شعب إسرائيل يحتفظون بجنسياتهم الاصلية بسبب استمرار الصراع مع العرب منذ تأسيس الدولة عام 1948، حتى ان بعض الاسرى الاسرائيليين في غزة قالت عائلاتهم انهم بصدد استخراج جوازات سفر للدول التي جاءوا منها بهدف تسهيل اطلاق سراحهم. هذا هو الوضع الملفق: جنسية إسرائيلية وجنسية اصلية حتى للأحفاد، دولة تعيش صراع مستمر لا يهدأ منذ تأسيسها، لم ينعم شعبها بأي فترات راحة فعلية، فجيشها في حروب دائمة وأجهزتها الأمنية مستنفرة منذ تأسيسها. انشأ لدى العقل الإسرائيلي بوعي وبدون وعي رغبة مكبوتة سرعان ما ظهرت للعلن في سحق الهوية العربية التي تحيط بدولته من كل جانب. فنتيجة للضعف الحضاري العربي طرحت دعاوى وأفكار وآراء عن الجذور السامية لشعوب الدول العربية، وان العودة اليها قد يخرجها من واقع التخلف والانكسار التي تعانيه منذ مئات السنوات. وقد تبناها الإسرائيلي ببراعة. فالسوريون ليسوا عربا بل فينيقيين، وهذا ما يشيعه بعض العرب اليائسين من الواقع العربي المأزوم، وهذا ما كان من امر اللبنانيين في بداية تأسيس لبنان. فقد اندلع صراع بين لبنان العربي ولبنان الفينيقي، لبنان المسلم ولبنان المسيحي، انتهى بإقرار عروبة لبنان وتقاسم السلطة بين مكوناته الطائفية.

اثناء الاحتلال الإسرائيلي لسيناء اجتمعت إسرائيل برؤساء القبائل العربية وحاولت اقناعهم ان اليهود اقرب اليهم من المصريين، فقالوا لهم انتم عرب ونحن يهود، نحن أبناء إسحاق وانتم أبناء إسماعيل وجدنا إبراهيم، انتم اهل العربية ونحن اهل العبرية، انتم اهل القرآن ونحن اهل التوراة، فنحن وانتم اذن أبناء عمومة، اما المصريون فغرباء عنا وعنكم. وحاولوا معهم اعلان دولة عربية مستقلة في سيناء تحت الحماية الإسرائيلية، الا انهم وبحيلة ذكية تمكنوا من الإعلان للعالم بأنهم يرفضون المحاولات الإسرائيلية وان سيناء جزء من مصر وانها جزء من العالم العربي وان الإسرائيلي غاصب ومحتل.

هذه الواقعة تدل على السعي الحثيث لدى الاسرائيلي الذي يحيط به عالم عربي ضخم من كل جانب في تفكيك الهوية العربية، وان الشعوب المحيطة به تتكلم العربية وليسوا عربا. انه يتمنى ان تترسخ هذه العقيدة لدى الاجيال العربية وأمنيته الكبرى ان يراها وقد تحولت الى واقع صارخ. فلا دول عربية ولا شعوب عربية، بل أمم متعددة ومتباينة وإسرائيل جزء من هذه التشكيلة المتنافرة.

وبينما يبلغ عدد اليهود في العالم ستة عشر مليون فأن عدد العرب يزيد عن 430 مليون والمسلمون يناهزون المليارين، وتقع دولة إسرائيل وسط عالم إسلامي مترامي الأطراف على اكثر من 32 مليون كيلومتر مربع، يمتد من المحيط الأطلسي حتى اقاصي آسيا وبدول إسلامية بأعداد متفاوتة لا تخلو منها أي قارة سواء اسيا او افريقيا او أوروبا. هذا واقع فظيع بالنسبة للاسرائيلي الذي يجد نفسه وحيدا في مواجهته. فهو امام امة ضخمة ذات تاريخ يمتد على اكثر من 1400 سنة من الإسلام، تمتلك تراثا هائلا وتاريخا ضخما لا يمكن انكاره او القفز عليه، لذلك فانه يسعده ان يشاهد العرب والمسلمين وقد تمزقوا ما بين أكثرية مسلمة وأقليات معادية لهم، وشيعة وسنة متصارعين الى الابد، ما يطلبونه من الله هو ان يعلن السنة ان الشيعة ليسوا مسلمين لينقص عدد امة الإسلام نصف مليار على الاقل، ويتمنون ان يعلن الشيعة انهم وحدهم المسلمون وغيرهم خارج عن الديانة الإسلامية ليصبح عدد الامة الإسلامية اقل من نصف مليار!

وبديهي ان مثل هذه الآراء لا قيمة لها وان اجج الصراع المذهبي والشحن الطائفي وبلغ اقصى تشنجاته. فالمسلمون بمختلف مذاهبهم يدخلون مكة والمدينة، وتجتمع الدول الإسلامية بمختلف انتماءاتها المذهبية تحت مظلة منظمة العالم الإسلامي، في دلالة على انها أوهام من القول وخرط من الحديث.

الا انه لا بد لقادة وحكومات وشعوب الامتين العربية والإسلامية العمل على تعزيز الوحدة القومية والتسامح الديني وسحق وتدمير الأفكار التي تهدم الانتماء القومي العروبي والهوية الإسلامية، وسحق الاطروحات المتطرفة التي تدمر العلاقة بين الأكثرية العربية والاقليات العرقية كالأمازيغية والأفارقة والارمن وغيرهم، او الأقليات المسيحية والبهائية وغيرها، او تؤجج الصراعات والنزاعات المذهبية بين المذاهب الإسلامية، من اجل الحفاظ على الكيان الإسلامي. يمكن استلهام التجربة الأوروبية، فأوروبا ليست قارة، يكفي ان ننظر الى أي خريطة. انها جزء من اسيا، وبينها وبين الدول المحسوبة على القارة الاسيوية حدود تمتد على لأكثر من الفي كيلومتر، ورغم ذلك يصرون على انهم قارة مستقلة. والاعجب من ذلك ان هذه القارة معترف بها رغم كونها جغرافيا جزءا من اسيا، لغاتهم لا تكاد تحصى، اعراقهم متنوعة، الا انهم تمكنوا من إيجاد وحدة سياسية قد تفوق وحدة الاتحاد الروسي، ومواقفهم الخارجية لاسيما في مواجهة التحديات تكاد تكون موحدة، وتجاوزا ببراعة واقتدار الصراعات السياسية والحروب الدينية التي عانت منها شعوبهم قبل مئات السنوات.

اننا في عالمنا العربي لسنا فقط بحاجة الى استلهام تجارب الاخرين في التنمية الاستراتيجية، بل انه لا بد لنا من وضع تكتيكات ديناميكية للحفاظ على وجودنا كأمة بين الأمم. فلا وجود لوطن بدولته وشعبه الا بوجوده في اطار امة ينتمي اليها. الاسرائيلي يفتقد لهذا الانتماء، انه ينظر بحسرة لاجتماع 57 دولة اسلامية وعربية في قمة الرياض من اجل فلسطين وغزة، يعلم علم اليقين ان فلسطين قضيتهم وانها تنتمي لهذه الامة وان الشعب الفلسطيني احد شعوبها، وهو يدرك انه بلا امة ينتمي اليها، وانه يحضى فقط بدعم سياسي مبني على مصالح غير مضمونة الاستمرار.

الهايدبارك حديقة رائعة تبعث في النفوس طاقة ايجابية، ومن اهم مناطقها ركن المتكلمين الذي ارتادته العديد من الشخصيات التي صنعت التاريخ، وهو اليوم يشهد وجودا عربيا كثيفا بل انه من دون العرب يبدو فارغا ومكانا كئيبا، فهم من يضفون عليه الحركة ويبعثون في ارجاءه الحيوية. إلا ان الأمة الحية هي الامة الموحدة القادرة على تجديد ذاتها وإحياء الامل في نفوس أبنائها جيل بعد جيل لتكون نبراسا للإنسانية في المجد والحرية.