القوة الاقتصادية بين استبداد الصين وديمقراطية الغرب

ثمة تجارب عالمية كثيرة تتقدم فيها التنمية على الديمقراطية. لكن من الصعب حدوث أي تطور طالما ساد الفساد والترهل، مهما كان الحكم ديمقراطيا.

يقول البعض انه من الممكن الجمع بين النظام الاستبدادي التقليدي وبين القوة الاقتصادية وبالتالي ازدهار الدولة القومية دون المرور بمخاضات مؤلمة. والحقيقة انه من الممكن ذلك على المدى القصير والمتوسط على الأقل. فالديمقراطية في احد ابعادها ما هي إلا نظام ضمان المكتسبات والمحافظة عليها، بمعنى ان النظام السياسي التقليدي متى ما قام بواجباته وأدار موارده بمهارة فان مخرجاته من الممكن ان توازي مخرجات النظم الديمقراطية المتقدمة.

في الستينات الميلادية عمد شاه ايران محمد رضا بهلوي الى العمل على تحديث بلاده بهدف تحويلها الى قوة اقليمية كبرى، وقد تقدم في سبيل ذلك خطوات لا تزال شواهدها حتى اليوم. فمصانع السيارات وبرنامج الطاقة النووية وسكك الحديد والعديد من الصناعات وأسلحة الجيش الايراني التي ساعدت ايران على الصمود في بدايات الحرب العراقية الايرانية كانت كلها من منجزات نظام الشاه، الذي رغم ما حققه إلا انه سقط بثورة شعبية عارمة، بسبب استشراء الفساد في نظامه وإهماله مصالح شعبه، اذ عانى الشعب من تردي الاوضاع المعيشية وانهيار البنى التحتية والخدمات وشيوع الفقر والبطالة في فئات وشرائح واسعة، وتقلصت الطبقة الوسطى، وانهارت مقومات السلم الاهلي، فكانت الثورة الشعبية الكبرى التي اسقطت نظام الشاه عام 1979.

العراق مثال اخر. ففي السبعينات الميلادية كان الامية صفر، وكان العراقيون في رفاهية ورغد من العيش رغم استبداد البعثيين. وبغداد تشهد ازدهارا وإطلاق مشاريع إنمائية، وكان العراق عاكفا على برنامج نووي طموح وبرز علماء عراقيون كثيرون في مجال الطاقة النووية. وعندما وصل صدام حسين للسلطة كانت خزينة البلاد ممتلئة، ولكن نتيجة لطغيانه وديكتاتوريته الدموية دمر العراق في الحروب المجنونة التي خاضها على مدى اكثر من ثلاثة عقود وما اعقبها من اضطرابات فظيعة وأزمات حالكة حطمت البلاد على مختلف الاصعدة.

في عام 2010 زار الرئيس الاميركي الاسبق باراك اوباما القاهرة والقى خطبة حث فيها العالم العربي على تجاوز معوقات التنمية مستشهدا بتجربة دبي وكولالمبور كنماذج عربية وإسلامية يمكن الاحتذاء بها في التنمية المستدامة والتطور الحضري والسير نحو المستقبل. والحق ان دبي والامارات عموما نموذج عربي ملهم لنظام حكم تقليدي تمكن من تحقيق اهداف التنمية عبر اقتصاد انتاجي حقيقي فاقت مخرجاته بعض الدول المتقدمة. وغالبا ما تصطف دبي وابوظبي الى جانب مدن عالمية في الاحصاءات الدولية السنوية. فالنظام التقليدي اذا ما امتلك القدرة على استثمار الموارد والتطور الدائم في الاداء الحكومي وإزالة معوقات التنمية المستديمة فانه سيتمكن من بناء اقتصاد قوي وتنمية دائمة. ميزة الديمقراطية في هذه المقارنة انها الاقدر على حماية المكتسبات والمنجزات واستمرار الحكم الرشيد، بينما تفتقد الانظمة التقليدية غالبا لضمانات وصول ادارة كفؤة وغير مستبدة لسدة الحكم. هنا تكمن قيمة الديمقراطية ولكن في حال وجود نظام دستوري او شبه دستوري وأعراف صارمة فأنه من الممكن تجاوز هذه المعضلة على المدى المتوسط على الاقل.

في عام 1956 اقدم نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر على الغاء اتفاقية قناة السويس التي بموجبها تدار القناة بواسطة شركات فرنسية وبريطانية حتى عام 1969، وأمم القناة والغى الاتفاقية من جانب واحد ورفض دفع تعويضات للشركات التي تعرضت لخسائر جسيمة، مما ادى الى اندلاع حرب العدوان الثلاثي عام 56 التي كادت تطيح بالحكومة المصرية لولا تدخل الاتحاد السوفييتي، بعدها جرت مفاوضات انتهت بقبول مصر دفع تعويضات لبريطانيا وفرنسا.

ما حدث في مصر في 56 مجرد مثال لما يمكن ان يحدث في أي بلد لا يضمن فيه رأس المال المحلي والأجنبي وهذا ما تجاوزته العديد من البلدان بغض النظر عن نظامها السياسي ديمقراطيا كان او استبداديا. فالصين مثلا تمكنت من جذب الاستثمارات الخارجية فتدفقت اليها رؤوس اموال كبرى الشركات العالمية ولم يعبأ احد بنظامها الشيوعي ما دامت فرص الاستثمار والكسب كبيرة ورؤوس الاموال والاستثمارات تتحرك بأمان في ظل مناخ مؤاتي، ما حول الصين الى ثاني اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وغدت مصنع العالم وسوق دولية ضخمة تعج بالفرص.

يا ترى ما الذي سيجنيه المواطن العربي من نظام ثوري يرفع الشعارات الشعوبية والقومية ويفشل في تجسديها على ارض الواقع كما كان من امر نظامي ناصر والقذافي اللذين تركا بلديهما في وضع مزرٍ على مختلف الأصعدة؟

ما جدوى برلمان منتخب ذي صلاحيات لا يمتلك القدرة على تجاوز الصخب والصراعات البيزنطية والهويات الفرعية ما دون الوطنية والأفكار المناهضة للحريات المدنية؟

ايهما الافضل للمواطن العربي، ان يعيش في ظل ممارسة ديمقراطية صاخبة لا جدوى منها وتساهم في استنزاف الموارد والإمكانيات، ام في ظل استبداد ناعم مخرجاته ومنتجاته تضاهي الدول الديمقراطية؟

زرت دبي في احدى السنوات ودخلت مكتبة فيها الكثير من المطبوعات الدينية لمذاهب اسلامية متعددة فسألت صاحبها عن ذلك فقال لي ان دبي متسامحة فهذه المؤلفات ليست ضد احد ولا تشكل مصدر ضرر لأي جهة، انها تصل جمارك دبي ويدفع عليها الرسوم المقررة وفي حال تسويقها يدفع عنها الضرائب ايضا فلماذا تمنع وتحرم الفئة التي تستفيد منها؟ حتى الكتب الخاصة بالديانة المسيحية ما دامت مقتصرة على المؤسسات المسيحية والأفراد والأسر فانه يسمح بدخولها الى البلاد.

وذات مرة التقيت بمواطن ايراني فقال لي انه يذهب الى بلده في اجازة كل حين وآخر ولكنه لا يستطيع البقاء فيها طويلا لأنه يشتاق سريعا الى دبي فقد اعتاد اجواءها الحيوية بعكس اجواء ايران الرتيبة. هذا هو المناخ الذي يقدم فيه العامل والموظف والخبير افضل ما لديه. هذا هو المكان الذي يجذب رؤوس الاموال وأصحاب المليارات ليربحوا ويربح البلد الذي يستضيفهم بحفاوة. في مناخ دبي والإمارات النابض بالحياة والمفعم بالحيوية الذي يمد الانسان بالطاقة والروح الايجابية المبدعة من الطبيعي ان ينتج عنه اقتصاد قوي ومنتج. دبي حرارتها في الصيف تناهز الخمسين درجة ولكن سوق ديره يعج بالمتسوقين حتى ساعات متأخرة من الليل رغم الرطوبة الخانقة والحر الشديد. والمقيمون من مستثمرين وموظفين وعمال بل ومواطنين ايضا وطلاب مدارس وجامعات بعد اسبوع حافل بالعمل المنتج الذي يدر دخلا حقيقا على الامارة يريدون ترفيها ومعبدا وتسوقا ومرافق وخدمات فيجدون كل ذلك فيتجدد نشاطهم وتستمر انتاجيتهم.

دبي تجربة ملهمة دون شك ليس من السهل تقليدها، اذ من الممكن ان تبني ناطحات سحاب ومطار ضخم وبنى تحتية كاملة ما دمت تمتلك المال. ولكن التحدي هو في خلق المناخ وصنع بيئة جاذبة والقدرة على استثمار الموارد والوصول الى مرحلة الاقتصاد الانتاجي الحقيقي، الذي لا يمكن ان يتحقق في بلد يريد العامل والموظف والطالب والمستثمر والخبير ان يمارس حقه في العبادة فلا يستطيع، يريد حقه في ممارسة طقوسه الدينية فلا يتمكن، يريد ان يمارس نمطه الاجتماعي وثقافته الخاصة فلا يقدر، يريد قانونا واضح المعالم يضمن من خلاله حقوقه فلا يجد إلا انظمة معقدة ومتناقضة، يريد ان يمارس حقه في الترفيه فيجد مناخا اجتماعيا متشددا او بنى سياحية وتحتية مترهلة غير قابلة لتقديم منتجات ترفيهية وفنية عالية الجودة، مما يخنق الحياة ويجعل مناخها متسم بالخمود واليأس، الامر الذي ينعكس على الاقتصاد وكافة جوانب الحياة.

لقد سقط الاتحاد السوفييتي عندما ترهل اقتصاده بسبب المركزية والفساد وسوء الادارة والغياب التام للتنمية البشرية والمبادرات المستقلة، فتداعت مؤسساته حتى كانت النهاية عام 1992. حاول الرئيس السوفيتي الراحل ميخائيل غورباتشوف الاصلاح وذلك بانشاء قطاع خاص وإعادة هيكلة وجذب الاستثمارات، إلا ان المناخ في البلاد كان خانقا والبيئة ملوثة بكافة اشكال الفساد والجمود المدمر للإبداع. وكوبا لا تعاني فقط من الحظر الأميركي، بل اصل معاناتها في نظامها السياسي القمعي وبيئتها الخامدة، حتى ان صالونات الحلاقة والتموينات الغذائية مملوكة للدولة والعاملين فيها موظفون في القطاع العام، وعندما نقلت للقطاع الخاص عارضوا الانتقال اليه لان العمل فيه لن يكون مضمونا في ظل مناخ استثمار سيئ وأوضاع مزرية متراكمة منذ عشرات العقود. في المقابل عندما بدأت سنغافورة ببناء اقتصادها بقيادة رئيسها المؤسس لي كوان يو الذي لم يهتم ببناء نظام ديمقراطي، كان كل همه ان يشيد اسس دولة قابلة للحياة، فقوبل بانتقادات حادة من قبل منظمات حقوقية وجهات دولية، إلا انه لم يهتم لشانها لأنه كان يعلم ان الديمقراطية لن تكون لها أي قيمة إلا في ظل دولة تمتلك اقتصادا منتجا. وقد وفى بعهده. فها هي سنغافورة دولة ترأستها لفترة امرأة مسلمة رغم ان المسلمين اقلية فيها. فالديمقراطية لا جدوى منها في ظل بلد يعاني من الفقر والتخلف. فالهند مثلا بلد ديمقراطي من الدرجة الثانية (ديمقراطية معيبة) إلا ان المتمكنين من ممارسة حقوقهم السياسية نسبة محدودة من السكان لأسباب كثيرة على رأسها ان الهند لا تزال بلدا من العالم الثالث في معظم المجالات رغم نظامها الديمقراطي الذي احتل المرتبة الــ 42 في مؤشر الديمقراطية لعام 2017.

في عام 2022 حققت هونغ كونغ المرتبة الاولى في مؤشر الحرية الاقتصادية بالرغم من تبعيتها للصين إلا انها منطقة اقتصادية خاصة وتتمتع بحكم ذاتي وحافظت على صدارتها كمركز مالي وتجاري عالمي واقتصاد حر عالي التطور، وهذا مؤشر على انه يمكن انشاء اقتصاد واعد حتى في ظل نظام شمولي تقليدي كالصين اذا ما توفرت بيئة جاذبة.

التجربة الصينية ماثلة للعيان، ولكن لا يمكن المقارنة بين النظام الصيني وبين أي نظام اخر في العالم الثالث. فالصين بلد ضخم بعراقته وتاريخه وإمكانياته وقدراته البشرية والطبيعية. وان كان النظام الصيني شموليا إلا انه يمتلك امكانيات هائلة ومتطورة تمكن بفضلها من بناء اقتصاد منتج هو اليوم ثاني اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. وبفضل عدد سكانها الضخم، تمكنت الصين من تغذية اقتصادها بآلاف الخبراء والعلماء في مختلف الحقول والتخصصات دون الحاجة الى تغييرات كبرى في بيئتها الوطنية بهدف استيعاب مهاجرين من بيئات اخرى على غرار الغرب الاوروبي والأميركي.

مصر تمتلك ايدي عاملة كبيرة يمكن استثمارها لتتحول مصر الى صين العالم العربي وإفريقيا وتصدر ألاف المنتجات الصناعية والزراعية اذا ما عملت على القيام بإصلاحات كبرى على بنيتها التحتية وبيئتها الحاضنة. فإذا كان الاقتصاد القوي يجتمع مع دولة شمولية إلا انه لا يمكن ان يجتمع مع الفساد والترهل والتخلف وضعف البنى التحتية والتنمية البشرية وانعدام الحقوق الاساسية، يمكن بناء اقتصاد متطور فقط في ظل تنمية مستقرة وازدهار دائم سواء في ظل نظام ديمقراطي او استبداد عادل وتسلط ناعم. وهذا هو التحدي الحضاري المصيري الذي يواجه عالمنا العربي اليوم. فهل ستنجح البلدان العربية في بناء اقتصاديات منتجة اما انها ستبقى تائهة ما بين استبداد الصين وديمقراطية الغرب؟