مسلمون بلا مذهب

قد يستحيل وجود اسلام بلا طوائف ولكن قطعا من الممكن ان يظهر مسلمون بلا مذاهب.

مسلمون بلا مذهب. يطرح هذا الاتجاه بخجل في بعض الاوساط النخبوية في المجتمعات الاسلامية والعربية. فهل هو مصطلح واقعي وعملي ويمكن العمل به ليتحول الى تيار ديني مختلف ومغاير عن التيارات الدينية التي تقوم على الاسس الطائفية والمذهبية التقليدية؟

بعد عهد النبوة انقسم المسلمون الى مئات المذاهب والفرق والاتجاهات العقائدية، العديد منها انقرض اليوم وصفت الديانة الاسلامية على طائفتي الشيعة والسنة بمذاهبها المتعددة. كذلك كان امر المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية ومعظم الاديان التوحيدية والوضعية، وكذا كان مصير الايدلوجيات الكبرى التي غيرت وجه العالم كالشيوعية والرأسمالية والليبرالية والعلمانية، فهل يمكن ان يكون طرح مسلم بلا مذهب منسجم مع واقع الاديان الذي يقوم على الانقسام الى مكونات طائفية ومذهبية.

يطرح بعض المتشددين من الشيعة ان المسلمين انقسموا بسبب خلافهم على الخلافة وانه لولا هذا الخلاف لما ظهرت المذاهب والفرق. وهذا طرح بعيد عن الواقع والحقيقة وعن ماهية الاديان التي تقوم على الثقافة البشرية والصراعات والتجاذبات في بيئتها الحاضنة مما يؤدي الى انقسامها الى مذاهب واتجاهات. فلو سلمنا جدلا بهذا الرأي وجرى التاريخ عليه وغدت الخلافة في العلويين من بني هاشم، وكان الخليفة بعد النبي (ص) هو الامام علي ثم ابناؤه وفقا لتسلسل الامامة عند الشيعة، فهل ستظل الدولة التي اسسها النبي (ص) قائمة حتى يومنا هذا؟ وهل سيحول وجود ائمة الشيعة في الحكم دون ظهور المذاهب والفرق خاصة بعد انقضاء عهود سلطتهم واندثار دولتهم الحتمي كسنة لا محيض عنها؟ التاريخ يجيب بأن ذلك لن يحدث ابدا وان تولي العلويين للحكم لن يمنع ظهور المذاهب على الاقل بعد زوال سلطانهم، بل ان الشيعة وفي عهد الائمة انفسهم انقسموا الى عدة مذاهب بقي منها اليوم الجعفرية والزيدية والإسماعيلية عدا الفرق المنبثقة عنها. ولكن اليوم وبعد بقاء الاسلام على عدد محدد من المذاهب الفقهية والعقائدية هل يمكن طرح مسلم بلا مذهب؟

في الفقه الجعفري مصطلح "التبعيض" وهو ان يرجع الى فقيه في فتاوى وأحكام ويرجع الى فقيه اخر في غيرها، بناء على شروط معتبرة لدى الفقهاء، وهو عند السنة معمول به عند عامة الناس حيث لا يلزمون بالرجوع في الفتاوى والأحكام الى رأي فقيه بذاته في اطار الانتماء للمذهب الفقهي الواحد.

في عام 1971 أصدر الدكتور مصطفى الشكعة كتابه "اسلام بلا مذاهب" دعا فيه الى اسلام بلا طوائف او مذاهب، إلا انه لم يشر الى الالية التي يمكن فيها تحويله الى واقع ماثل للعيان.

في القرن الثالث الهجري ظهرت جماعة اخوان الصفا، وكانت جماعة سرية لم يكشف عن اعضائها خوفا من الفقهاء والحكام، سعوا للتوفيق بين الدين والفلسفة. الا ان هذه الجماعة مثال بارز على هذا الطموح الكبير، أي "مسلم بلا مذهب"، فقد كانوا مسلمين بلا مذهب على الحق والحقيقة، وكانوا يأخذون من كل مذهب طرف منه، بل ويأخذون من الاسلام والمسيحية واليهودية ما يطمئنون اليه منها، حتى حير في امرهم فلم يعرف لهم مذهب، فقال البعض انهم إسماعيليين، وقال آخرون انهم معتزلة، واخرون اتهموهم بالكفر والزندقة. بيد انهم كانوا علماء ومتكلمين مرموقين حاولوا التوفيق بين الاديان والفلسفات، اخذوا من الاديان والمذاهب والفلسفات ما يرونه ولم يجدوا أي تعارض بين الدين والفلسفة، والقران ومنطق أرسطو، وبين مختلف الاديان والمذاهب، وان وجد تعارض فليس في الاصول بل في الفروع التي اهتدت اليها العقول، والعقول من طبيعتها الخلاف والاختلاف، وان الحكمة ضالة المؤمن يتلقاها ولو من صدر المنافق. فكيف يترك علم افاء الله به لمجرد انه وضع في دين او مذهب او سفر من الكلام او الفلسفة او العلم المجرب؟ فكل علم نافع يأخذ به وكل دين ومذهب يحوي الحق والباطل فلا حق مطلقا ولا فسادا باطلا مطلقا، فكانوا مسلمين بلا مذهب على الحق وموحدين لا يرون في الاديان التوحيدية إلا دين واحد وشرائع متتالية بدأت بشريعة موسى (ع) وانتهت بشريعة محمد (ص).

يقول د. فؤاد معصوم في كتابه "اخوان الصفا فلسفتهم وغايتهم": "ان مذهبهم لا ينتمي انتماء كاملا الى مدرسة معينة من المدارس الفلسفية اليونانية، ولا الى احدى الفرق الاسلامية المعروفة، وأنهم يقولون ان مذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها."

ان الاسلام ينقسم الى عقائد وأحكام اساسية تشكل عصب الشريعة الاسلامية وأصولها الرئيسة كالإيمان بالله والنبي والقران والحياة الاخرة، والفرائض كالصلاة والصيام والحج، اضافة الى الدعوة الى الاخلاق والفضائل وكل ما يجلب الخير للإنسان والتي يتشارك فيها مع بقية الاديان توحيدية كانت ام وضعية.

يبدأ اسلام المرء بإيمانه باركان وأصول الاسلام، ثم بعده يعتنق مذهبا معينا لممارسة الاسلام عبادة ومعاملة وعقيدة وثقافة. إلا انه يمكن ان يبدأ معه ايضا اسلام المرء بلا مذهب. فالعقائد ما دون الاصول التي تدخل الانسان في الاسلام وتخرجه منها ما هي إلا عقائد مذهبية واعتقادات تاريخية لا يمكن القطع بصحتها وإلا غدت جزءا من اصول الاسلام التي يجب الايمان بها لاعتناقه، وقد تكونت بعد ان تكالب عليها المتكالبون وتعرضت لإرهاصات الصراعات السياسية والمذهبية على مدى مئات السنوات.

وكذلك الاحكام والفتاوى الفقهية فأنها اجتهادات الفقهاء، قائمة على الظن والتخمين لا القطع واليقين، وتشكل الآراء والتصورات والأفكار والآداب وتفاسير النصوص الدينية والمرويات التاريخية بمجملها الثقافة الاسلامية بتفرعاتها المذهبية ومدارسها الفقهية المتعددة. يقول الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه "اقتصادنا": "من المتفق عليه بين المسلمين اليوم أن القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع. وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتع بصفة قطعية من أحكام ألشريعة الخمسة في المائة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية."

فالمسلم غير المذهبي واللاطائفي هو الذي لا ينتسب لطائفة معينة ولا يعتنق مذهبا محددا، فيأخذ من كل مذهب ما يؤمن به فلا يقلد فقيها بعينه ولا يعتقد من عقائد المذاهب والفرق إلا بدليل يطمئن اليه، بل حتى العقائد والأحكام الاساس في الشريعة تفاصيلها خاضعة للقناعة والاطمئنان لا التقليد والأتباع، ليتحول الانتماء المذهبي عنده الى جذر ثقافي.

وليس هذا بالجديد فانه يمارس شي منه في نطاق المؤسسات الإسلامية. فعالم الازهر الشريف الشيخ محمد شلتوت اجاز التعبد بالمذهب الجعفري، أي العمل بأحكام وفتاوى الفقهاء الشيعة. وفي مصر يحتدم الجدل بين فترة وأخرى حول الطلاق الشفوي. فمؤسسة الازهر تصر على الاعتراف به عملا بآراء فقهاء المذاهب الاربعة، بينما استحسن عدد من خبراء القانون احكام الفقه الجعفري الذي تقول بعدم وقوع الطلاق إلا بشاهدين عادلين امام قاضي شرعي.

في العمرة والحج يختلف فقهاء المذاهب في العديد من الاحكام، من ذلك ان فقهاء الشيعة يحرمون التضليل المتحرك للحاج والمعتمر بينما يجيزه فقهاء المذاهب الأربعة. المسلم بلا مذهب يرجع هنا الى ما يطمئن له من اراء الفقهاء من مختلف المذاهب، وفي العقائد فانه لا قول قاطع في المهدوية، فالإيمان بأنه من نسل النبي (ص) وهو حي يرزق وسيظهر اخر الزمان، او القول بأنه سيولد، قد يكون ما يقوله الشيعة صحيحا. فالمسلمون يؤمنون بأن المسيح حي منذ اكثر من الفين عام، وقد يكون ما يقوله السنة صحيحا أي انه سيولد ثم يظهر، لا دليل حاسما على هذا او ذاك. إلا ان المهدوية حلم بشري منذ القدم، تؤمن به معظم الاديان وله ذكر كبير في الادب والفنون والميثلوجيا فهي طموح انساني اتفقت عليه البشرية بمختلف ثقافاتها والأقوال فيه كثيرة فلا يسع الايمان بها او تكذيبها مطلقا، ولا يمكن اثباتها او نفيها مطلقا. والمسلم بلا مذهب قد يقف بين البينين وقد يطمئن لهذا القول او ذاك وقد يتزعزع هذا الاطمئنان بعد مدة وهكذا دواليك.

وقضية الخلافة بعد النبي (ص) لها ابعاد لا بد من التطرق اليها. فالخلافة كانت في قريش بعد النبي (ص) في الدولة التي اسسها والتي انتهت بالغزو المغولي لبغداد، واستمرت ستمائة عام تقريبا في ثلاث عهود هي الراشدية والاموية والعباسية. وتبؤ الخلافة خلفاء من عدة فروع من قريش ابرزهم العلويين والزبيريين والأمويين والعباسيين، ليكون اول خليفة هو ابو بكر الصديق وآخرهم هو المستعصم بالله. وأقام الفاطميون وهم من قريش دولة خلافة في مصر والمغرب العربي، وأقام الامويون دولة خلافة ايضا في الأندلس. هذا هو تاريخنا بغثه وسمينه، بحقه وباطله، والمسلم بلا مذهب قد لا يسعه اعتناق عقيدة مغايرة لهذه الحقيقة التاريخية كالإمامة مثلا، وقد يرى لو ان الخلافة غدت شورى لكان التاريخ العربي بعد الاسلام اكثر اشراقا. وهكذا في كل مورد في العبادات والمعاملات او العقائد التاريخية او المفاهيم او الاراء فأن المسلم بلا مذهب يأخذ بما يقتنع به ويطمئن أليه وقد يغير بعد فترة هذا الاعتقاد او ذاك الرأي.

يبرز بعض المفكرين الافذاذ في هذا الطريق الوعر منهم جمال الدين الافغاني الذي انتدب نفسه للإصلاح وتنوير الامة بعربها وعجمها، بشيعتها وسنتها، فكان يذهب للشاه القاجاري ويدعوه للحكم الدستوري، ويذهب للأستانة العثمانية ويدعوا سلطانها للإصلاح، وأينما حل وارتحل كان يدعو للإصلاح في كل شئون الامة، فاحتاروا في امره، فبضعهم قال هو شيعي وبعضهم قال انه من السنة.

ومنهم المؤرخ واللغوي العراقي مصطفى جواد الذي نشا في اوساط الشيعة، الا ان اجندته الدينية والفكرية والثقافية كانت بعيدة تماما عن أي انتماء مذهبي حتى انه هو الذي اطلق على احد شوارع بغداد بشارع هارون الرشيد لان عصره كان من ازهى عصور بغداد والحضارة العربية، وكان يقول: لقد طلقت المذاهب كلها من دون استثناء الى غير رجعة.

بعد وفاة النبي (ص) لم يكن هناك مذاهب وكان المسلمون الاوائل يأخذون احكامهم من اهل البيت والصحابة ولم تكن المذاهب قد نشأت بعد حتى العهد الاموي الاول على الأقل. فالعودة الى اللامذهبية قد تكون ممكنه وتصور واقعي.

ان الخمس فريضة عند المسلمين لا احد ينكرها، ولكنها عند الشيعة في المكاسب وعند السنة في غنائم الحرب. المسلم بلا مذهب قد يطمئن الى انها في المكاسب وقد يرى انها في غنائم الحرب فقط، وهو في كلا الحالتين لم يعمل برأيه وإنما رجع الى اصحاب الاختصاص من فقهاء وعلماء المذاهب الفقهية.

وعندما يصلي المسلم فانه قد يطمئن الى اراء فقهاء الشيعة في الصلاة بأن السجود لا يجوز إلا على الارض وما تنبته ويحرم على كل مأكول وملبوس، وقد لا يطمئن الى صلاة التراويح ولكنه لا يقول ببطلانها وذهاب عمل من تعبد بها لأنه يعتقد ان قوام الاعمال النية والاطمئنان.

ان المسلم بلا مذهب يأخذ من كل مدرسة فقهية ما يطمئن اليه سواء كانت الازهر او النجف، وقد يقتنع بعقيدة من ذلك المذهب او ذاك وان كان منقرض، لأنه يرى ان معظم اراء الفقهاء مجرد اجتهادات تصيب وتخطئ وان معظم العقائد نشأت في ظروف وملابسات معقدة والإيمان لا يكون إلا عن دليل وقناعة، وان الثقافة الدينية المرتبطة بالخفيفساء المذهبية مجرد ثقافة بشرية قابلة للتغير والتطور وانه من الخطأ الفادح الالتزام بها بعقلية خاضعة ومستسلمة، وان الصراعات المذهبية والطائفية لا معنى لها ولن ينتج عنها سوى الدمار والخراب، وأنها من اهم ما يجب على العرب والمسلمين تجاوزه لكي يتمكنوا من شق طريقهم نحو الازدهار والقوة. هذا ما عمل به الاوروبيون المسيحيون فقد كانوا وما زالوا مذاهب شتى وفرقا لا تكاد تحصى ولكنهم تركوها وتجاوزوها فغدا كل مذهب وفرقة تعتقد بما تشاء وترى الحق في المسيحية بمنظارها ولا ينازعها احد في ذلك، فتوجهت اممهم نحو الاعمار والبناء فتقدمت وسادت، وهذا ما يجب ان تسير على هديه مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

 قد يستحيل وجود اسلام بلا طوائف ولكن قطعا من الممكن ان يظهر مسلمون بلا مذاهب.