القيصر الروسي بين الواقع والحقيقة
سلبيا أو ايجابيا كان الموقف من السياسات الخارجية التي يتبعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فإنه انقذ أوروبا من إمكانية أن تتحول روسيا إلى مريضها الذي يستعصي شفاؤه على كل العلاجات.
لقد استدار بوتين بروسيا عن مصيرها الذي كان ينزلق بها نحو الهاوية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وكل متابع محايد يدرك أن الاتحاد السوفييتي كان هو الهدف الذي توجهت إليه نيران الحرب الباردة ولم تكن روسيا هي ذلك الهدف.
ذلك رأي مُجتزأ من الواقع وقد لا يصمد أمام رياح الحقيقة. فالخوف من روسيا لم يبدأ مع قيام الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الأولى بل يعود إلى زمن روسيا القيصرية. لم يكن الأوروبيون يثقون بالروس. لذلك لم يخطر لهم يوما ما أن يتخيلوا روسيا جزءا من اتحادهم الذي هو بالنسبة للروس بمثابة سد طبيعي يقلل من الصدمات الأميركية. غير أن واقع الاتحاد الأوروبي صار بعد حرب أوكرانيا يقول شيئا مختلفا. ذلك واقع يمكن تغييره.
لا يزال الرئيس الروسي يتكلم بحذر عن المساهمة الأوروبية في حرب أوكرانيا، بالرغم من جنون الاستعراض الذي أصيبت أوروبا من خلال زيارات مسؤوليها لكييف وحفلات الاستقبال الاستعراضية التي تُقام للرئيس الأوكراني في العواصم الأوروبية. لم يتخل قيصر روسيا الجديد عن حقيقة أن بلاده جزء من أوروبا بغض النظر عن المواقف التي اتخذها زعماء الموجة الأوروبية الجديدة من روسيا.
ولكن الخوف التقليدي من روسيا لا يكفي لكي تسوء العلاقات بين الطرفين إلى هذه الدرجة. هناك عصا أميركية مسلطة على الرؤوس، زادها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قوة وخبثا. فلربما وجد زعماء أوروبا وجلهم لا يمثل أحزابا تاريخية في المسألة الأوكرانية سببا للشعور بوحدة المصير بعد الصدع الذي أحدثه الخروج البريطاني.
ذلك ما استفادت منه الولايات المتحدة وعملت على انضاجه من خلال موقفها الداعم لدعاة بريكست في لندن. وهو ما لا يُخفى على الزعماء الأوروبيين الذين لا يملكون سوى الالتفاف حول أوكرانيا في محاولة منهم للتصدي لطموحات القيصر الروسي التي هي في جزء منها صناعة خيالية ليست حقيقية ولا تمت إلى الواقع بصلة. فروسيا القوية لا تشكل خطرا على الاتحاد الأوروبي. بل العكس صحيح. ذلك لأن الحقيقة التي تستند إليها فكرة تأسيس الاتحاد تقوم على الحفاظ على السلم العالمي في عالم متعدد الاقطاب.
ولأن الصين لم تعد بعيدة فهي تقف في المجال الحيوي الذي يتأسس فيه ذلك التعدد فيمكن التعامل مع روسيا كما هو الحال مع الصين. وهو ما يعني أن خيوط اللعبة ستفلت بشكل نهائي من قبضة الولايات المتحدة. وفي ذلك قدر ليس بالقليل من المصلحة الأوروبية التي لا يمكن أن تتبلور إلا من خلال الانفصال عن الولايات المتحدة من خلال قرار سياسي حازم، لا يشكل التخلي عن أوكرانيا واحدا من مفاصله.
ليس من مصلحة أوروبا أن تعادي روسيا وبالقوة نفسها ليس من مصلحتها استفزاز الولايات المتحدة التي تشعر أجهزتها العميقة أن تجمعات سيادية صارت تملأ الفراغ الذي سببه انفرادها بقراري الحرب والسلم العالميين بعد أن مكنها التاريخ من أن تكون قطبا وحيدا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وقبل سطوع نجم الصين.
أخطأت أوروبا حين وضعت آمالها في سلة زيلينسكي، المغامر الذي رهن بلاده لأفكار طوباوية أميركية لا تقوم على أساس العداء لروسيا حسب، بل وأيضا الخوف من الاستقلالية الأوروبية التي يمكن أن تؤدي إلى تهشم الواقع الغربي ومن ثم العودة إلى حقيقة أن أوروبا هي التي صنعت العالم الحديث، وهو ما يتعامل معه القيصر الروسي بشكل جاد، لا لرغبته في أن تكون بلاده عضوا في الاتحاد الأوروبي وهو حقه ولكن لتفهمه أن أوروبا ستمرض لو أن روسيا أصابها الشلل الذي كان مقدرا لها بعد انهيار دولة الشيوعيين.
ألم يكن غزو أوكرانيا خطأً تاريخيا ارتكبه بوتين مضطرا بعد شعوره بأن كل الوساطات انما تُدار من قبل الولايات المتحدة التي لم تفكر بمصير الشعب الأوكراني حين وعدته بصواريخ الناتو الموجهة إلى جاره التاريخي؟
لم تكن تلك الصواريخ ضرورية. لا لأوكرانيا ولا لأوروبا. غير أن صناعة واقع ملتهب قد يؤدي إلى شرخ حقائق كثيرة كان بوتين قد راهن عليها وفشل في أن يصدم الأوروبيين بها.