الكاظمي أمام عملية "توازن" صعبة

 العملية السياسية في العراق لا تحتمل تكليف مرشح "رابع" بتشكيل حكومة جديدة، مع استمرار الثورة الجماهيرية، وجائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط.

العراق امام مفترق طرق، يجب على جميع الكتل السياسية تحمل مسؤولياتها الوطنية ودعم جهود رئيس الوزراء المكلف مصطفى الكاظمي بتشكيل الكابينة الجديدة، وتجميد مصالحها الضيقة خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق، وعلى إيران وواشنطن دعم مسار العملية السياسية وابعاد العراق من دائرة الصراع، لأن أي فوضى قد ترتد على مصالحها في المنطقة.

كرة الثلج تتدحرج!

منذ تغيير نظام الحكم في 2003، شهدت الساحة العراقية تدخلات إقليمية ودولية، وتصفية حسابات سياسية، كانت الأحزاب الحاكمة احدى أهم ادواتها الرئيسة. النتيجة، تشظِ اجتماعي، اندلاع صراع طائفي بين عامي 2005-2007، غلبة الولاءات المذهبية والقومية على الانتماء الوطني، محاصصة حزبية وسياسية مقيتة، واستشراء الفساد المالي والإداري، الحرب على داعش.

هذه المعطيات أدت الى احداث خلل في بنية الدولة العراقية ومؤسساتها، وبالتالي غياب رؤية مشتركة حول القضايا المصيرية، وإرادة سياسية لحل الازمات المتراكمة التي تعصف بالعراق، بحيث أصبحت تداعياتها أخطر. ولم يكن باستطاعة أي من الحكومات المتعاقبة إيجاد حلول ناجعة لها.

رهان الكاظمي: العراق أولًا

بعد أربعة أشهر من استقالة الحكومة العراقية برئاسة عادل عبدالمهدي- نتيجة للاحتجاجات الشعبية في أكتوبر 2019- وفشل كل من محمد علاوي وعدنان الزرفي في تشكيل الحكومة، تم تكليف مصطفى الكاظمي مدير جهاز المخابرات بتشكيل الكابينة الوزارية الجديدة في 9 نيسان/إبريل، بعد اجماع وطني غير مسبوق، وترحيب إقليمي ودولي.

في اول خطاب متلفز له، أكد الكاظمي على أهمية مكانة العراق، وان سيادته خط أحمر، مضيفًا "لن تكون السيادة قضية جدلية، والعراق للعراقيين"، في إشارة التي التدخلات الخارجية، التي أدت الى تراجع دور ومكانة العراق على الصعيد الإقليمي والدولي. كما تعهد بحصر السلاح بيد الدولة، وان المؤسسة الأمنية هي المسؤولة عن حماية المواطنين وتوفير الامن.

على صعيد السياسات الخارجية، يرى الكاظمي انه يجب الانفتاح على الخارج، وإعادة صياغة العلاقات مع الجوار الجغرافي على أساس متوازن، ووفق المصالح المشتركة، ووضع أولويات البلد في الصدارة وإيجاد حلول للتحديات الاقتصادية والامنية.

لم يتطرق الكاظمي في خطابه الى العلاقة المعقدة بين بغداد وواشنطن، ولا الى انسحاب قواتها من العراق، وهو مطلب حلفاء إيران، وربما يأتي ذلك في برنامجه الحكومي، لاسيما وان ترحيب طهران بالكاظمي جاء على أساس تشكيل حكومة قادرة على اخراج القوات الاميركية من العراق.

هكذا بات العراق العامل الأضعف في المعادلة الإقليمية والدولية، وفي الصراع الاستراتيجي بين واشنطن وإيران. وان وإعادة هيبة الدولة تكمن من خلال حكومة قوية تمثل اجندة وطنية، تضع مصالح العراق والعراقيين على رأس أولوياتها. أي حكومة "حل أزمات" تتحمل مسؤولية هذه المرحلة الحساسة والصعبة.

العملية السياسية في العراق لا تحتمل تكليف مرشح "رابع" بتشكيل حكومة جديدة، مع استمرار الثورة الجماهيرية، وجائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط- قد تلقي بظلالها على حياة شريحة واسعة من المجتمع العراقي- لذا يجب اعطاء الكاظمي حرية اختيار كابنتيه الوزارية بدون أي ضغوط، وان تدعم القوى السياسية جهوده ولا تضع العراقيل امامه، لأنها فرصة ثمينة لانتشال البلد من حافة الهاوية. يأتي هذا في ظل تحفظ تحالف الفتح على الوزارات السيادية (المالية، الدفاع، الداخلية)، وتطالبه بالتعديلات، في المقابل يرفض الكاظمي المحاصصة الحزبية ويضغط نحو ترشيح شخصيات مستقلة وغير سياسية. والسؤال هو: هل يصمد الكاظمي امام ضغط الكتل السياسية، ويصبح الرجل المنقذ؟

هناك حقيقة يجب تتفهمها الكتل السياسية، ان أي فشل في مهمة الكاظمي، سيلحق ضررا بالعملية السياسية برمتها، ويدفع العراق الى مستقبل المجهول، الذي قد يواجه عقوبات اقتصادية من قبل الولايات المتحدة، والى فوضى داخلية.

مع ذلك، رغم إدراك الكاظمي بحجم التحديات التي تواجه العراق، وسبل اخراج البلد من عنق الزجاجة، الا انه قد يصطدم بالفيتو الأميركي أو الإيراني، في حال عدم مراعاة مصالح أي من الطرفين، يجب ان يوازن فيها بين مصالح الشعب من جهة وبين الخصمين الإيراني والاميركي من جهة أخرى، لاسيما وان الصراع بين الطرفين وصل الى مراحل خطيرة. وفي دراسة لمجموعة باحثين نشره معهد أتلانتيك للشؤون الدولية، تم تشبيه صراع النفوذ بين واشنطن وطهران، بصراع الفيلة في بيت زجاجي، أي تصادم يلحق ضرر كبير بالبيت العراقي.

إيران اللاعب الأقوى

تبغض القوة الفراغ. فمع انهيار نظام الحكم في العراق عام 2003، خلت الساحة العراقية لإيران لتكون الاعب الأقوى- تشترك إيران مع العراق بحدود طوله أكثر من 1450كم، وبروابط مذهبية وعقائدية مع ما يقرب من 60% من الشعب العراقي- تمكنت من التحكم بالعديد من الملفات الاقتصادية والامنية المهمة في العراق، بغية الحفظ على وجودها في اهم ساحات الصراع مع واشنطن، والتخفيف من ضغط العقوبات الاميركية عليها، وردع الاخيرة من خلال أذرعها السياسية والعسكرية في العراق.

أضافة الى ذلك، من المنظور الإيراني، يعد العراق بمثابة مجال حيوي لإيران وحديقتها الخلفية، وممر استراتيجي للوصول الى سواحل البحر المتوسط، واستثمرت إيران الحرب على داعش بإنشاء ممر بري يربط طهران مع بيروت، عبر الأراضي العراقية والسورية، لتوسيع نفوذها الجيوسياسي في المنطقة، ومناورة الاميركان في ساحات متعددة.

إيران في حالة صراع بالوكالة مع أميركا على الأرض العراقية، وصلت ذروتها عند مهاجمة السفارة الأميركية في بغداد، واستهداف قواعدها العسكرية بعد مقتل أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني، وهذه الهجمات توحي بأن طهران ماضية قدماً نحو هدفها الاستراتيجي الرئيسي: إخراج القوات الأميركية من العراق.

في هذا السياق، تحاول طهران الحفاظ على مكتسباتها في العراق بأي ثمن، من خلال هندسة تشكيل الحكومات المتعاقبة، وهذه احدى اهم التحديات التي تواجه الكاظمي، وتشير المصادر الى دخول طهران في نقاش مع الكاظمي - قبل تكليفه- حول تواجد القوات الاميركية في العراق.

ان دعم طهران لرئيس الوزراء المكلف يعتمد على مخرجات "الحوار الاستراتيجي" بين بغداد وواشنطن المقرر ان يبدأ في مطلع حزيران، حول مصير التواجد الأميركي في العراق. فاذا كانت مخرجات التفاوض تصب في مصلحة طرف على حساب طرف آخر- طهران وواشنطن- قد يؤدي ذلك الى الإطاحة بحكومة الكاظمي.

المصالح الاميركية على محك!

كما لإيران اجندة سياسية، أميركا ايضا لديها اجندة ومصالح واضحة بالعراق وتريد المحافظة عليها من أي تهديد خارجي. رغم ان العراق ليس محورا مهما في استراتيجية الرئيس ترامب، الذي لا يريد بقاء قواته فترة طويلة في العراق. او تكرار فشل أوباما بالانسحاب عام 2011، ثم العودة ثانية عام 2014 لمحاربة داعش.

عندما صوت البرلمان العراقي على اخراج القوات الأميركية في شهر يناير - بدافع الغضب من الضربة التي أودت بحياة الجنرال قاسم سليماني في العراق دون موافقة الحكومة - تعهد ترامب بعدم مغادرة العراق على الإطلاق، وهدد بفرض عقوبات إذا أجبر على ذلك.

أي ان بقاء واشنطن في العراق يعتمد على عاملين: الأول، مدى تأثير إيران بالشأن العراقي، ومراقبة تحركات طهران عن قرب، التي باتت تهدد المصالح الاميركية؛ الثاني، هو عدم تكرار سيناريو قرار أوباما بالانسحاب، وعودة داعش للظهور.

ترغب الولايات المتحدة بعقد اتفاقية استراتيجية جديدة مع حكومة عراقية جديدة بصلاحيات كاملة، تحدد مستقبل قواتها، وتحمي مصالحها، وتطور علاقاتها الى علاقات اقتصادية مع بغداد. وهذه مهمة حكومة الكاظمي إذا ما نالت ثقة البرلمان.

خلاصة القول، رئيس الوزراء المكلف أمام تقاطعات حادة، وعملية توازن صعبة لتصحيح مسار الدولة، بدءا من التفاوض مع الكتل السياسية حول تشكيل حكومة عراقية جديدة بعيدة عن سياسة المحاور، الى تلبية تطلعات الجماهير بإجراء انتخابات مبكرة والقضاء على الفساد وحصر السلاح بيد الدولة، وانتهاءً بالجلوس مع الخصمين العنيدين طهران وواشنطن لغرض رسم علاقات جادة معهم وموازنة القوى، وبالتالي انهاء لعبة "شد الحبل" بين الفواعل الرئيسة في العراق.