الكاظمي والصواريخ والسيادة الغائبة

رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي موسم جديد يستكمل مسلسل العملية السياسية الكارثية في العراق.
الكاظمي ظهر ضعيفا وغير قادر على إيقاف الهجمات الصاروخية
مصطفى الكاظمي يعرف حجم التأثير الإقليمي في المشهد العراقي
بعض الأطراف العراقية تدعي دعهما للكاظمي في العلن لكنها تحرجه في السر

لم نسمع إن كان للعراق سيادة منذ عام 2003 وحتى الآن. قالها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي نفسه، في أول إسبوع من توليه مهام رئاسة الوزراء، والرجل يدرك كما يبدو، أنه ليس بمقدوره أن يشفي غليل العراقيين، في أن يكون بلدهم محترما، وتكون له سيادة.

واذا كانت الدولة نفسها مخترقة من جهات سياسية عراقية، تتحكم في مسارات مؤسساتها وتعلن ولاءها للآخر، وهي من تقرر سياسة الدولة ومن تفرض عليها سطوتها وهيمنتها، فيصبح الحديث عن السيادة من قبيل الضحك على الذقون، وهو بهذه الحالة، يشبه النعامة التي تدفن رأسها في التراب، وتبقي مؤخرتها مكشوفة، علها تستطيع أن تقنع الآخرين، بأن أحدا لا يراها.

والطامة الكبرى أن رئيس الوزراء يعرف تلك الجهات التي تطلق الصواريخ كل يوم، وقد عقد إجتماعا إستثنائيا أكثر من مرة وزراها، والتقى رموزها المؤثرة، لمعرفة من يطلقها والقاء القبض عليه، بعد إن شعر أن الأمر بلغ حدودا مرعبة، تهدد إستقلال العراق وأمنه وإستقراره، لكن تلك الجهات تعاود التهديد، وتتحدى الكاظمي في عقر داره، لتسقط صواريخها على مقربة منه.

يبدو أن بغداد العاصمة تحولت الى معارك بين جماعات وعشائر، على شاكلة ما يجري في البصرة ومحافظات جنوبية، حيث لا تجد لسلطة الدولة من مكان -هذا إن وجدت دولة أصلا على أرض العراق- وارادت نقل تجربتها الى العاصمة العراقية، للتدليل لكل العراقيين إن كنتم تحلمون يوما بأن تعيشوا في أمن وإستقرار، فهذا أقرب اليكم من أحلام العصافير.

ويشير محللون ومتابعون للشأن العراقي الى أن الكاظمي أخفق في أول إختبار لتحقيق السيادة، ويبدو أنه أدرك في نهاية المطاف، أن هذا الأمر لن يتحقق، وستبقى الصواريخ تنهال على منطقة الخضراء وما يجاورها وعلى معسكرا عراقية أقيمت منذ عشرات السنين، وبعضها منشآت مدنية كالمطار، حتى وإن راح خرابها يتسبب بأضرار بالغة لمنازل مواطنين عراقيين وتهديدا لأرواحهم.

صحيح أن أمام السيد الكاظمي تحديات صعبة، أهمها تداعيات جائحة كورونا والوضع الاقتصادي المنهار، وتحديات التظاهرات، ومن يضمرون له الضغائن، لكن الرجل لا يجد من يسهم في تخفيف العبء على ما يواجهه من تحديات، وان إستمرار تعرض بغداد لتلك الاعتداءات وعمليات إنتهاك السيادة، يحول دون التفاته الى معالجة الأزمات الخانقة، في خطوة يعدها الكاظمي إستهدافا لشخصه قبل كل شيء، وإظهاره بمظهر الضعيف، الذي لا حول له ولا قوة، وتقف أجهزته شبه متفرجة، على ما يجري، بل وعاجزة، وكأنها لا يهمها أمن العراق، ولا تسهم في تحقيق إستقراره، وتعيد له "بقايا" سيادته.

كان العراقيون، قبل عقود، وفي أيام " الدكتاتورية " إن سمعوا إطلاقة في شوارع بغداد، فأن "الفاعل" سيلقى عليه القبض في غضون ساعات قلائل. أما الآن فبإمكانك أن تستخدم صواريخ ثقيلة وراجمات، وحتى صواريخ أرض أرض، دون أن يكون بمقدور أحد إكتشافك، أو حتى محاسبتك، لأن "الحرية" وفرت له "الملاذ الآمن" لإستخدم القوة ضد كل من يختلف معه، أو يراه خصما ينبغي إستهدافه.

ومن يطلق الصواريخ الآن، هو عراقي ومن أم وأب عراقيين بالولادة، لكن ولاءه مزدوج، وهو يجد في الولاء للآخر، وما يحصل عليه من مكاسب، ربما، أفضل بكثير مما يحققها له بلده، بل يصل الأمر أن يحرق نصف بلده، إن إستلزم الأمر، إرضاء للطرف الآخر الذين يدين له بالولاء.

والعتب الذي يقع على السيد الكاظمي من العراقيين، شعبا وقوى سياسية، أنه كان على رأس أعلى جهاز إستخباري، وهو لابد وأن يعرف تلك الجهات، ويعرف توجهاتها، ومن أين تنطلق صواريخها ومن يطلقها، بل هي تعلن عن نفسها أمام الملأ ووسائل الاعلام، لكنه يخشى الاصطدام بها، لأنها أقوى منه، وهي بإستطاتها أن تسقطه متى شاءت، وخلفها شخصيات وقوى سياسية، تبدو في ظاهرها أنها معه، لكن في الباطن تخفي رغبتها في الإنتقام منه، على طريقتها الخاصة، وهو يدرك تلك الحقيقة المرة، لكن الرجل "يبلعها" وهو على يقين من أن المواجهة معه، ستكلفه حياته، قبل سلطته، ولهذا يسعى الى عدم إغضابها او نفرزتها، كونها هي صاحبة الكلمة العليا، وهي من ترسم أدوار السلطة وحركتها، حتى وإن تركت مساحة لرئيس الوزراء، للتحرك ضمن الأطر المتعارف عليها، لكي لاتحرجه كليا أمام شعب العراق، وتجد في ضعفه وتردده في الإصطدام بها، ما يقوي عضدها، وتفرض إرادتها عليه، بقوة السلاح.

وما هو متعارف عليه، أن الحوار العراقي الأميركي، حولته جهات أخرى الى حوار بالصواريخ، إذ ان كل التوجهات القريبة منه في سلطة القرار تدعم هذا التوجه، ضمن رغباتها الدفينة، كونها لم تدرك أنها عراقية الولاء أصلا، بل أن سطوتها وهيمنتها على الوضع العراقي، تكون عن طريق "إتعاب الآخر" وإشعاره بأنه "مهدد" في كل حين، وان التأثير الإقليمي الخارجي، هو من يدفعها الى التمادي في الإصطدام معه، وهو قد خبر لعبتها منذ سنوات، لكنه يحاول أن يلعب معها بالمقابل لعبة القط والفار، أو لعبة "الختيلة" عله يسلم على ريشه، لحين ينعم بالسلطة ولو لأشهر مقبلة، هذا إن تركوا الرجل يحكم، أصلا، قبل أن يدبروا له أمرا ما، فـ "إخوة يوسف" موجودون في كل زمان ومكان، وتحميل الذئب دم الضحية، ممكن على الدوام، بالرغم من أن ذئاب الصحارى إختفت، وبقيت ذئاب المدينة، هي من تنهش أجساد من تجده هو الضحية المقبل، الذي يحقق لها آمالها في الإنتقام منه.

نحن وكل العراقيين ندرك أن السيد مصطفى الكاظمي، ليس بمقدوره أن يفعل شيئا يغير من المعادلة العراقية، بإتجاه تحقيق إنفراجة في الأمن والاستقرار والطمأنينة، وبدت علامات التشاؤم أكثر قوة من علامات التفاؤل، وأن كل من يأتي على شاكلته، لن يكون سوى "تكملة" للآخر، مثلما يدرك الكاظمي أنه ربما سيكون آخر رئيس لوزراء العراق من عهود العملية السياسية، وهو نفسه وليس غيره، من سيحمل نعشها الى مثواها الأخير.