الكتابة بالمشرط ... الكتابة بالألم

رواية إيمان يحيى تتعرض إلى عالم طالما سمعنا عن فساده لكننا لم ندخله ولم نستطع رصد مفرداته، وهو عالم الجامعة.
"الكتابة بالمشرط" هي العمل الروائي الأول للمؤلف
الكاتب عرض لقضيته من خلال مجموعة من الشخوص تستحق التوقف أمامها

تتعرض رواية الكاتب والمترجم والطبيب والأستاذ الجامعي إيمان يحيى "الكتابة بالمشرط" إلى عالم طالما سمعنا عن فساده لكننا لم ندخله ولم نستطع رصد مفرداته، هذا العالم الذي يشكل بلدا بكامله من خلال التراتبية العلمية والوظيفية التي يقوم عليها، وهو عالم الجامعة، فحينما يكون الأستاذ الجامعي فاسدا فإنه ينتج تلامذة فاسدين، وهؤلاء بدورهم ينتجون مدرسين وأطباء لا يتمتعون بأي نوع من القيم ولا الاخلاق، فيتحول المجتمع كله إلى مؤسسة لإنتاج الفساد وتبريره، هذا ما تعرضت له رواية "الكتابة بالمشرط" الصادرة في طبعتها الثانية عن دار الشروق.
ركز إيمان يحيى جهده في هذا العمل على فضح مؤسسة الجامعة، وزاد من تركيزه على مؤسسة الطب في الجامعة، فكان لدينا مهنتان هما التدريس والطب، لنجد انفسنا أمام مستنقع يحكمه التخلف والرجعية والتمييز العنصري بين الرجل والمرأة والمسلم والمسيحي، لنكتشف كم الأمراض التي تعاني منها بلادنا في العصر الراهن، وندرك كم ثقل المسئولية التي تمثلها الجامعة، تلك التي كانت رمزا لضمير الأمة، فضلا عن كونها أكبر ماكينة للتعليم والتثقيف وتربية المبادئ والمثل والأخلاق، هذه المنظومة التي تم تجريفها عن عمد وعلى مدار سنوات طويلة، ربما يعود تاريخها القريب إلى زمن الانفتاح والتحول إلى الرأسمالية وآليات السوق.

الكاتب حاول أن يرصد مختلف القضايا الثقافية التي نعيشها، بدءا من سيادة الفكر السلفي، مرورا بالتمييز العنصري مع المرأة والأقباط، فضلا عن الختان وزواج القاصرات والتحرش واغتصاب الأطفال وغيرها

تقوم الرواية على مناقشة قضية اضطهاد طبيبة شابة لأنها قررت أن تعمل في قسم الجراحة الذي يسيطر عليه الرجال، ولا يرغبون في دخول المرأة إليه، هؤلاء الرجال الذين نكتشف طوال صفحات الرواية أن صفات الرجولة قد سقطت عنهم بحكم تعليم وعمل سلطوي لا يترك لهم فرصة مناقشة أساتذتهم في شيء، فما بالنا بالاعتراض على قراراتهم أو نقد أعمالهم، ومن ثم فقد تحولوا جميعا إلى مجموعات من الخراف الخانعين، وزاد بعضهم رغبة في تعضيد بقائه في القسم أن أخذ يكتب تقارير عن زملائه لرئيس القسم، وتبرع البعض في عمل الدسائس وتسريب الإشاعات ولعب دول العميل المزدوج تنفيذا لرغبات وأحلام رئيسه، أما الجانب المهني فقد كان في أسوأ حالاته، حيث العمليات الجراحية التي تتعطن في جسد المريض، والتحاليل التي لا يهتم أحد بالنظر فيها قبل العملية، وغيرها من الكوارث التي تؤدي دائما إلى فقدان المرضى لحياتهم.
عرض الكاتب لقضيته من خلال مجموعة من الشخوص التي كانت تستحق التوقف أمامها، في مقدمتهم عامر النقلي الإخواني، أو الذي يحتل موقعا متقدما في جماعة الإخوان، وبالأحرى السلفي حتى النخاع في  أفكاره ورؤاه، والفاسد حتى النخاع أيضا منذ كان طبيبا صغيرا لم يحصل على الماجستير، والذي حوّل قسم الجراحات المتخصصة في كلية الطب بالجامعة الإقليمية التي يعمل بها إلى ما يشبه عصابة تساعده في التآمر على كل من يفكر في مخالفته، وبعده يأتي رئيس القسم السابق الملقب بـ "علي شعارات" لكونه معتادا على إطلاق الشعارات التي يعمل بها، وهو أيضا لا يقل فسادا واستخداما للأطباء والمدرسين الصغار في التجسس على أساتذهم وزملائهم، وهناك د. محمد الشربيني، الذي نعتقد أنه يمثل شخصية الكاتب، ذلك الذي حصل على الدكتوراه من الخارج، وتزوج من ممرضة كانت تساعده هناك، وعاد بها إلى بلاده لتعيش معه كنموذج ما بين المصري والغربي، نموذج أقرب لسوزان طه حسين، نموذج كان دافعا له طيلة الوقت للتفكير باستنارة وتفتح. ومن ثم كان الوحيد الذي قرّر الوقوف في وجه الجامعة بجانب الطبيبة سعاد في أزمتها. وهناك الأطباء المدرسون الذين عاشوا كالدمى في يد كل رئيس يأتي للقسم.
وهناك المستوى الأعلى الذي يدير الجامعة نفسها، وفي مقدمته رئيسها الذي لا يعنيه غير إدارة مصالحه ومكتسباته، ولا يعنيه سوى الشكل العام للجامعة، وألا يعرف الإعلام شيئا عما يدور فيها من أخطاء وفساد، كي يحصل على شهادة جودة التعليم بما تحققه له من امتيازات.
هذا المجتع بدوائره الكبيرة والصغيرة لم يستطع أن ينتصر على نفسه في قضية بسيطة، وهي تعيين طبيبة بدرجة معيدة في الكلية، فقد اتخذ منها رئيس القسم موقفا متعنتا لأنها طبيبة في قسم كله أطباء رجال، متسائلا كيف تطلع على مرضى ذكور، متناسيا أنه وزميله السابق في رئاسة القسم وافقوا على عملها نائبة في القسم منذ ثلاث سنوات، ومن ثم قرر النقلي إعلان الحرب للإطاحة بها، وتبرع المدرسون الصغار ترضية له بالكيد لها، فأشاع محمد سعد أنها على علاقة بزميلها الطبيب المسيحي أبانوب، حتى أن الأخير لم يجد حلا لهذا  المأزق إلا إعلان خطوبته على فتاة مسيحية، فما كان من النقلي إلا أن كاد لها عند علي شعارات الذي عينها، حتى خرج الأخير عليها عاريا من غرفة تغيير الأطباء ملابسهم قبل دخول غرفة العمليات، وتبرع أحد مخبري النقلي بأن نصحها بشكواه في قسم الشرطة، لكنها رفضت أن تفعل ذلك، وقررت الذهاب لوكيل الجامعة لشئون التعليم العالي، ورغم تدخل رئيس الجامعة إلا أن تحالف النقلي انتصر من جديد عبر آلياته البيروقراطية، وزاد النقلي أن عنفها أمام الجميع ودفعها بيده فسقطت على الأرض، ومن جديد ذهبت لمكتب رئيس الجامعة، لكنها وجدت شكوى ضدها بالإهمال، ووجدت شكاوي عديدة من زملائها بتغيبها عن نبطشيتها، وحين طلبت تحديد لموعد امتحان الماجستير وجدت النقلي يخبرها بأنها لم تحصل على الماجستير كي تتقدم للامتحان، وسرعان ما عقد اجتماعا للقسم جعل المشرفين على رسالتها يكتبون تقارير مختلفة عن وجود أخطاء في الرسالة، وطالب الجامعة بالتنازل عن درجة معيد التي طلبها القسم كي يتم تعيين سعاد عليها. 

novel
فضح مؤسسة الجامعة

كانت سعاد هي الشخصية الأقوى والأوضح والتي تحمل قيم الرجولة التي تنازل عنها كل أطباء القسم، بعدما ركعوا وخنعوا وأصبحوا مخبرين وشماشرجية للنقلي ومن قبله علي شعارات، وكانت سببا لإثارة غضبهم وغيرتهم عليها، وتحدت الجميع بعدم استسلامها، وذهبت إلى الإعلام لتكشف عما تعانيه من اضطهاد وعنصرية، فكانت النتيجة أن لفقت لها الجامعة ممثلة في قسم الجراحات المتخصصة تقريرا بأن رسالتها مسروقة، بما يعني إنهاء مستقبلها في الجامعة، وربما الطب ككل، ولم يقف معها إلا الشربيني بقيمه ومثله التي لم تتلوث بعد.
استخدم الكاتب عمله لتقديم عرض موجز على هامشها لتاريخ مصر المشتبك مع تاريخ حياة الكاتب منذ فترة السبعينيات حتى صدور الرواية في ٢٠١٥. ومن ثم نشهد فيها ظهورا للسادات ومبارك وثورة ٢٥ يناير وحتى ٣٠ يونيو، وإرسال النقلي زوجته وأبناءه للاعتصام في رابعة، في حين بقي هو بعيدا كي لا يقضي على مستقبله في الجامعة. نجد جماعة ٩ مارس المكونة من أساتذة الجامعة ومن بينهم د. محمد أبوالنار، ونظنه د. أبوالغار، كما نجد عشرات الأسماء التي تم تغييرها لكنها شخصيات حقيقية في الوقع، ونعتقد أن الرواية في مجملها تقوم على أحداث حقيقية عاشها الكاتب وقرر الكتابة عنها.
"الكتابة بالمشرط" هي العمل الروائي الأول للمؤلف، ولم يأت بعده حتى الآن غير رواية "الزوجة المكسيكية"، وقد حاول الكاتب أن يرصد فيها مختلف القضايا الثقافية التي نعيشها، بدءا من سيادة الفكر السلفي، مرورا بالتمييز العنصري مع المرأة والأقباط، فضلا عن الختان وزواج القاصرات والتحرش واغتصاب الأطفال وغيرها، وهي في مجملها قضايا مهمة، لكن حشدها بكل هذا الكم يحول النص إلى منشور حقوقي، ويجعلنا نتخيل أن الكاتب جمع كل هذه القضايا وقرر أن يسجلها في عمله، فضلا عن أن الرواية شهدت العديد من الفصول التي كان يمكن الاستغناء عنها، لأنها جاءت كتفصيل لما تم إيجازه في الفصول الأولى عن سعاد وقضيتها، ثم أتت هذه الفصول الشارحة عن كل شخصية ورد ذكرها، سواء كانت أساسية أو ثانوية، لكن ذلك لا يقلل من أهميتها كعمل كاشف عن واحدة من أكثر المؤسسات التي تعلم أبناءها الخنوع والجمود وعدم النقد، رغم أن مهمتها الأساسية نقيض ذلك.