مرسي .. ذلك البطل التراجيدي

إشكالية مرسي كانت كل يوم تزيد وتتمدد، حتى أنها تحولت من شأن محلي إلى شأن عربي وإسلامي وإلى شأن أممي.
مرسي بطبيعته كان مثيرا للمشكلات، بداية من كونه مواطنا يعيش على الفطرة والبساطة وربما العشوائية، وصولا إلى كونه جاء من مؤخرة الصفوف ليكون رأس حربة الأخوان
الأخوان ناضلوا ثمانين عاماً من أجل أن يكون مرسي رئيسا عليهم

رحم الله محمد مرسي كان بطلا إشكاليا بالمعنى الفني، سواء وهو عضو في مجلس الشعب أو حتى وهو رئيس أو وهو مجرم يحاكم بتهمة التخابر، طيلة الوقت كان بطلا إشكالياً، لكن المدهش أن إشكاليته كانت كل يوم تزيد وتتمدد، حتى أنها تحولت من شأن محلي إلى شأن عربي وإسلامي وإلى شأن أممي، ومرسي في حد ذاته لم يكن ليثير أي إشكال أو دهشة في كل ما حدث، لكن فكرة الأخوان المحميين بتنظيمهم الدولي وانتماءاته، جعلت مرسي مطروحاً للنقاش العام، وكل دولة غدر بمصالحها سعت للمتاجرة بمرسي وجماعته من أجل تحسين المصالح المغدور بها، ساعد هذا على خلق منابر عديدة يمكن للإخوان وأنصارهم الحديث من خلالها، وجعل الكثيرين منهم يتبارون في الكتابة عبر هذه المنابر أو حتى إرسال رسائل لهذه البلدان بأن لديهم ما يقولونه، وأنهم عملاء صالحون.
يدعونا ذلك للتفكير في مسألة العمالة وشكلها وطريقة أدائها الراهنة، وما حدث من تغيرات عن الأداءات والأشكال القديمة، ويجعلنا نفكر في طريقة وآلية المكافأة التي يحصل عليها العملاء النظاميون والعملاء المنتسبون، كما يدعون للتفكير في شكل الدولة الوطنية الجديد وقد أصبحت مخترقة من جوانب عديدة، إما لصالح فكرة واحدة كالأخوان وأهدافهم أو لصالح أفكار وأهداف وأعداء شتى وغطاءات كثيرة ومتباينة، وما مدى المرونة التي يجب أن تبديها الدول الوطنية في التعامل مع هؤلاء وفقا لآليات ثورة الاتصالات الحديثة، يدعونا أيضا للحديث عن أهمية الثقافة بوصفها وقاية وبوابة أمان، ليصبح السؤال عن كيف يخلق التعدد والتجاور بنيان الدولة الوطنية الحديثة، وما هي الحدود التي يتحول معها النقد إلى عوامل هدم، وما هي الحدود التي يتحول معها الدفاع إلى عوامل صناعة دكتاتورية جديدة.

مرسي أصبح تحت الكاميرا أكثر من اللازم، لنجد أنفسنا أمام فواصل طويلة من التناقضات بين الشعبوية والبساطة إلى حد السذاجة وبين بروتوكولات الدولة وأعرافها وتقاليدها

الأخوان فكرة مصرية بحتة، تم إنتاجهم في مصر وتصديرهم إلى البلدان العربية والأجنبية، وتم استغلالهم من قبل الجميع لصالح ضرب الدولة المصرية، سواء أيام الملكية أو حتى الناصرية والساداتية أو ما بعد ثورة يناير، وحتى أثناء حكم الأخوان أنفسهم، وما بعد زوال ملكهم، حتى وقتنا الحالي، بمعنى أنهم اخترعوا كشوكة في ظهر الدولة المصرية، ونتجت عنهم أشواك أخرى أكثر خطورة وتشدداً، فكانوا اللبنة التي بنى عليها الإسلام السياسي ككل، والجماعات المتوالدة من أفقه، وحتى الإمارات التي تمخض عنها تفكيرهم سواء في أفغانستان أو سيناء أو الشام والعراق أو ليبيا أو نيجيريا أو السودان، وكذلك الأجنحة السياسية أو الحزبية التي وصلت للحكم في العديد من البلدان الآخرى، والتي بلغت بها الهيمنة أن مواطني هذه الدول ما عادوا قادرين على انتقاد سياسات الأخونة، وكأنهم يعانون من انتشار مرض فكري خبيث يجعلهم يختلط عليهم رؤية الديمقراطية ورؤية الأخونة، فتحدثهم عن الديكتاتورية الدينية التي قد تصل إلى مكارثية دينية ومحاكم تفتيش إلهية فيحدثونك عن الديمقراطية والدولة المدنية والانتخابات الشرعية، وهي في أغلبها تهويمات تحت ثقل خبث الفكر الأخواني.
ما يجعل البدان العربية والإسلامية وحتى الأمم المتحدة يختلط عليها الفعل الديمقراطي بالخبث الأخواني هو قدرة خلاياهم على التمويه، تجد من يبدأ حديثه بأنه ليس أخوانيا ولكن، تجد آخر ينصب نفسه حكما عدلا يتحدث عن الديمقراطية وشرعية الصناديق، وتجد من يقدم نفسه على أنه باحث في الفكر والشأن الديمقراطي، سوف تتعدد الغطاءات التي يتوارى تحتها ممثلو الفكر الخبيث ومريدوه، إما رغبة في الإتجار مع الاموال والعطايا الدولية للأخوان، أو شيطنة للدولة المصرية أو مزايدة عليها في ظروف سياسية معينة، أو سعيا لفكرة العمالة ومكافآتها المتباينة والعديدة، أو رغبة في تمويلات توقفت أو منتظر قدومها، وكل هؤلاء يتشابهون مع الوطنيين الراغبين في دولة قوية ليبرالية تؤمن بالتعدد وتضمن حقوق الجميع، لكن كثير منهم لا يؤمن بسيادة القانون، تماما كبعض رجالات وعناصر الدولة غير المؤمنين بالقانون، والحالمين بأن يكون القضاء أداة للحكم وليس لتحقيق العدل.

مرسي بطبيعته كان مثيرا للمشكلات، بداية من كونه مواطنا يعيش على الفطرة والبساطة وربما العشوائية، وصولا إلى كونه جاء من مؤخرة الصفوف ليكون رأس حربة الأخوان، سواء في مجلس الشعب أو حتى في سدة الحكم، وانتهاء بكونه الآن آخر الخلفاء المهديين وولي الله الذي يمشي في السحاب، هكذا أصبح بطلا إشكاليا رغما عنه، فهو لم ينذر نفسه من صغره أو شبابه للعمل السياسي، كأيمن الظواهري أو ناجح إبراهيم أو خيرت الشاطر أو عبدالمنعم أبو الفتوح أو إسماعيل هنية أو غيرهم، فهو مواطن صالح يصوم ويصلي ويقرأ القرآن، ويعمل في مجال تخصصه كأي مواطن عادي، دون أفكار كبرى ولا أحلام واسعة، لكن بتجنيده كغيره من آلاف العلميين سواء المهندسين أو الأطباء أو الصيادلة أو المعلمين، ورؤية رغبته المدهشة في الكلام، بطريقته البسيطة والشعبوية المشتملة على نوع من الأبوة والأخوية العادية، جعله ذلك مقربا من شورى الجماعة، ومع فكرة كونه أستاذا في ناسا والدعم المقدم من قبل الجماعة وصل إلى مجلس الشعب، وتحول إلى رقم أكبر من إمكانياته، لكن فكرة الشعبوية وتقديس الأقدمية في الجماعة حافظت عليه من الإقصاء، فلم يتصور رجل كخيرت الشاطر أنه في في يوم من الأيام سيقدم التحية لمرسي، لكن شاءت لحظة الاختصارات المتبادلة من قبل العسكريين والأخوان في انتخابات عام 2012 بأن يصبح شفيق ومرسي هما المرشحان النهائيان، ومع إرهاب الجماعة لمفاصل الدولة تم إعلان فوز مرسي، وهو الأمر الذي يفقده شرعيته حتى ولو كانت معه أغلبية الأصوات، لأن إعلان فوزه تم تحت مقصلة تهديد ترهيب الجميع بحرق البلاد إن لم يعلن فوزه.
هكذا أصبح مرسي تحت الكاميرا أكثر من اللازم، لنجد أنفسنا أمام فواصل طويلة من التناقضات بين الشعبوية والبساطة إلى حد السذاجة وبين بروتوكولات الدولة وأعرافها وتقاليدها، ما بين الانتماء للخارج الذي يحتضن التنظيم الدولي وما بين التنظيم المحلي وقدراته وخبراته المحدودة في الحكم، ما بين رغبات الداخل والخارج، ورفض الدولة العميقة في الاستجابة للأخونة السريعة، كل ذلك كان يمر عبر رأس رجل واحد هو محمد مرسي العياط، رجل كانت الإشاعات عن صحة قواه العقلية أكثر من قدرته على اتخاذ قرار الذهاب إلى الحمام منفرداً، لكنه فاجأ الجميع بأنه قوي، ويتمتع بقوة جلد مهولة، تجاوز كل العقبات والصدمات واستمر يخطب ويخطب في كل مشهد يظهر فيه، فكان البطل التراجيد الذي دفعته الأقدار إلى المقدمة، وحكمت عليه أن يكون بداية الحلم ونهايته، حتى أنه الوحيد الذي أصبح حاكماً لمصر، وكأن الأخوان ناضلوا ثمانين عاماً من أجل أن يكون مرسي رئيسا عليهم، أعتقد أن رجلا مثل خيرت الشاطر أو أبو الفتوح حين يفكر في هذا الأمر يشعر بالمرارة والحنق الدائمين على مرسي والمصريين أيضاً.

على الدولة المصرية أن تنتبه إلى أن الأخوان والإسلام السياسي هم أهم وأكبر منتج قدمه المصريون للعالم في القرن العشرين، وهذا يعني أن الأرض الواسعة التي أنتجت هذه الجماعات هي أرض خصبة، وممهدة بعناية لاستيعاب المزيد وإنتاج المزيد منهم، عليها أيضا أن تنتبه إلى أن الأخوان ليسوا تركيبا كيميائيا ولا اكتشافا من باطن الارض، لكنهم تفاعل ثقافي أدت إليه ظروف معينة، وأنها ليس أمامها سوى أمرين، الأول هو: تغيير الظروف التي أدت إلى انتاج الأخوان ونسلهم من جماعات الإسلام السياسي، الثاني هو: تقديم ثقافة بديلة عما طرحه الأخوان وأنصارهم، حيث لا يمكن تغيير الفكر بالفراغ، فالعقل يحتاج إلى أن يكون ممتلئاً بالفكر، وبديل الفكر هو الفكر وليس الهواء الجاف. وهذه مهمة لا بد أن يوضع من أجلها برنامج وطني عام طويل الأمد، ترصد لها الميزانيات وتؤهل له المؤسسات وتصاغ من خلاله الرؤى والأفكار التي يتفاعل معها ويؤمن بها الناس كبديل حقيقي عن أوهام الإسلام السياسي.