على هامش همينغواي وشمسه التي تشرق

"الشمس أيضا تشرق" عمل يحمل بين سطوره وطيات أفكاره بذرة مشروع الكاتب ومقترحه الفني.
الرواية في بدئها لم تكتب بنية العمل الروائي، لكنها كانت رصدا ليوميات عاشها همينغواي
كل عناصر الرواية متوفرة في العمل

من بين الكتب التي لفتت نظري في أروقة معرض الكتاب الماضي رواية "والشمس أيضا تشرق" لأرنست همينغواي، كانت هذه الرواية الصغيرة هي العمل الأدبي الأول، ذلك العمل الذي يحمل بين سطوره وطيات أفكاره بذرة مشروع الكاتب ومقترحه الفني، ينسحب هذا على أي كاتب عموما، حيث يمكننا أن نقرأ من خلال العمل الأول ملامح أعمال الكاتب ومشروعه القادم. 
في هذه الرواية نرى حالة واضحة من انعدام البلاغة، وتجرد تام للغة مما يمكن تسميته بالدسم البلاغي، موقنين أننا أمام مراسل صحفي وليس كاتبا روائيا، مراسل ينقل الحدث كما هو، بحواراته وانفعالاته وأماكنه وأزمنته وشخوصه، فنرى لغة المراسل ولهاثه خلف الاحداث وليس لغة الأديب وتأمله لهذه الأحداث، نرى حرص الكاتب على الاقتصاد الفني واللغوي قدر المستطاع، ونعيش معه في تلك العوالم والأزمات والأحداث التي  عاشها سواء في فرنسا أو إسبانيا أثناء الحرب، ونقرأ حواراته مع أصدقائه الأميركان والإسبان والفرنسيين،  ونتوقف أمام حبيبته الإنجليزية التي لم يتزوجها. 
يمكننا القول إن هذه الرواية في بدئها لم تكتب بنية العمل الروائي، لكنها كانت رصدا ليوميات عاشها همينحواي، يوميات نجد أصداءها في كتبه ومقالاته التي أتت فيما بعد، والتي رصدت نفس الأماكن وربما الشخوص وقضايا الجيل وسنوات ما بعد الحرب، وتلك المتاهة الوجودية الكبيرة التي شهدها الجميع آنئذ. 

novel
كل عناصر الرواية متوفرة في العمل

عن نفسي أصدق منطق أن الكاتب هو بطل نصه الإبداعي، وأن الحدود الفاصلة بين الكاتب وبطله،  أو السارد في عمله، ضيقة للغاية، وأن الكاتب بكل خبراته وثقافته كامن في رأس هذا الراوي، وأن كثيرا من ذكرياته وأحداث حياته ويومياته تتسرب للنص من خلال هذا الراوي وموقفه من الاحداث. 
يمكننا القول على هامش هذا النص إن أرنست همينغواي كان يعيش في ذلك الوقت قصة حب حقيقية بالفعل، وأنها  ربما كانت قصة حب من طرف واحد، حتى أن البنت التي كان يحبها طلبت منه أن يساعدها في التعرف على شخص آخر فساعدها. ثم طلبت منه أن يعرفها على مصارع الثيران الشاب فساعدها، لكننا لا نعرف هل تزوجت الراوي أم لا، ويبدو أن ذلك لم يحدث في الواقع، لذا ظلت النهاية معلقة كما لو أنها أمنية لم تكتمل.
ما يجعل هذه الرواية ثورة على كتابة الرواية في هذا الوقت أنها لم تعترف بعالم الحبكة الروائية، ولم تكن مشغولة بالتصاعد الدرامي، ولا حتى الرؤية المشهدية، لكنها كانت مشغولة بالسرد، ولعبت الوقائع فيها دور البطل الأساس، أما الزمن فقد كان اعتياديا متراتبا وقائما على الفلاش باك، والنص كله عبارة عن ذكرى قديمة، حتى وإن لم يذكر المؤلف ذلك صراحة في نصه.
حين نتذكر كتابات هذه الفترة في الأربعينيات وربما الثلاثينيات من القرن العشرين سوف نجد كثيرا من الأعمال القائمة على البناء الكاتدرائي، كأعمال كازنتزاكيس وهيرمان هيسة وغيرهما، حتى أننا حين نقارنها بهذا النص سننظر لهيمنجواي على أنه ليس كاتبا، وأنه في أفضل الحالات صحفي نابه، وأن نصه ليس عملا روائيا بقدر ما هو  تقرير صحفي.
لكن يبدو أن هذه الملامح هي التي صدمت الرأي العام ونبهته إلى وجود كاتب له مذاق مختلف في الكتابة، كاتب لديه طرح ورؤية جديدة، فهو كاتب لا يشمر ساعديه من أجل الكتابة، بقدر ما يكتب وكأنه يتحدث، ويتحدث كأنه يملي، أو هكذا تخرج منه اللغة البسيطة والسهلة دون زيادة أو نقصان، دون بلاغة أو رغبة في صناعة وتصوير مشهد بعينه، كتابة إخبارية خالية من دسم المجاز في اللغة الأدبية.
وفي النهاية نجد كل عناصر الرواية متوفرة في العمل، بداية من الصراع والحبكة والسرد السلس والشخوص والزمن والأماكن، كل شيء متوافر، فما السر في حب المتلقي للنص، وعدم حبه أيضا حبه أيضا؟ يبدو أن هذا السؤال كان السبب في انتباه الناس إلى ذلك الكاتب الجديد المدهش والمربك أيضا، والذي يدعي أرنيست همينغواي، حتى أن روايته تحمل عنوانا مربكا مثله وهو "الشمس أيضا تشرق".