فنكوش دان براون

رواية "الأصل" نموذج معبر عن أعمال ورؤية وتكنيك براون، فضلا عن كونها نموذجا لأعمال البيست سيلر بشكل عام.
حين يبدأ الكمبيوتر في عرض الفيلم الذي يوثق لاكتشاف إدموند نجد أنفسنا أمام "الفنكوش"
رواية البيست سيلر تقدم لقارئها وعودا مثل وعود الفنكوش

لا أحد ينكر أن الكاتب الأميركي دان براون أصبح واحدا من أشهر كتاب الرواية في العالم الآن، خاصة بعد ما حققته رواياته (الرمز المفقود، حقيقة الخديعة، ملائكة وشياطين، شيفرة دافنشي) من مبيعات بملايين النسخ في عشرات الطبعات بمختلف أنحاء العالم، وتحويل أغلبها إلى أفلام سينمائية حققت إيرادات مهولة، ومن بين هذه الأعمال، وآخرها رواية "الأصل" الصادرة مؤخرا بالتعاون بين الدار المصرية اللبنانية والدار العربية للعلوم ناشرون  والتي حققت نجاحا كبيرا بنفس الطريقة والكيفية.
لكن حين نقرأ "الأصل" كنموذج معبر عن أعمال ورؤية وتكنيك براون، فضلا عن كونها نموذجا لأعمال البيست سيلر بشكل عام، سنكتشف أننا أمام ما يمكن تسميته بالفنكوش، تلك الكلمة التي وردت في واحد من أعمال الممثل الكوميدي عادل إمام، والتي تعني "الوهم"، والتي ناقش الفيلم من خلالها كيف تخلق سلعة لا وجود لها من خلال إغراق السوق بإعلانات كبيرة ومهولة عنها، حينها تصبح مخيلات المستهلكين جاهزة ومتوهجة وفي حالة لقبول أي سلعة سيتم تقديمها إليها.
هذا ما حدث في رواية "الأصل"، وهي عمل ضخم يتجاوز المائة وسبعين ألف كلمة، ويقع في نحو 460 صفحة من القطع الكبير، ومنذ الصفحات الأولى نجد أنفسنا أمام حدث كبير سيقلب العالم رأسا على عقب، وسينهي تاريخ الأديان ويمحو فكرة الدين من على الأرض، حتى أن ممثلين للديانات السماوية الثلاث بجتمعون بعالم البرمجيات والحواسب الإلكترونية إدموند كيرش ويعترضون على ما ينوي الإعلان عنه، وسرعان ما يلاحقهم قاتل وينهي على حياة عالم الدين الاسلامي، ثم حياة الحاخام اليهودي، وتبدأ الشكوك تدور حول البطريرك المسيحي صديق الملك الإسباني ومعاونه الأول، وتدور الشكوك حول الخطر المحدق بإدموند كيرش كي لا يعلن عن إكتشافه العظيم.

دان براون يُخرج لسانه للقارئ، وهو يسأله عن رأيه في الوهم الذي اشتغله به على مدار أربعمائة وستين صفحة، أو مائة وسبعين ألف كلمة

طيلة النص تتسع الخيوط وتتعدد الزوايا والشخصيات، ويظل القارئ يلهث خلف الصفحات سعيا لمعرفة الاكتشاف العظيم، وكلما تصور أنه أقترب من بئر الماء وجده سرابا، ليبدأ في اللهاث خلف الصفحات من جديد، فيموت إدموند في الحفل الذي جهز له بعناية وأمام جميع الكاميرات دون أن يعلن عن اكتشافه، ويترك لنا أمينة المتحف التي كانت تجهز معه للحدث، والتي نكتشف أنها خطيبة ولي عهد إسبانيا والملكة المستقبلية لها، ومعها في هذه الأجواء المتوترة العلامة روبرت لانغدون أستاذ إدموند، الذي استدعاه الأخير ليشهد معه هذا الحدث الكبير، في تلك الليلة التي ينتظرها العالم كله، ويتحفز ضدها كل أصحاب الديانات في العالم لأنها ستنهي على بضاعتهم تماما.
بعد مسيرة طويلة من المطاردات التي ينقذهما فيها الكمبيوتر العظيم الذي صنعه إدموند، وظل على اتصال بهما ليخبرهما بما يحدث وأين يذهبون كي يتوصلوا إلى الشيفرة التي يمكن من خلالها فتح هاتف إدموند لبث الحدث العظيم على العالم، وفي النهاية كعادة كل روايات براون يتوصلون إلى الشيفرة ويصلون إلى مكان الكمبيوتر العظيم لبث الحدث العظيم إرضاء لروح صديقهما إدموند.
من المفترض أن الاكتشاف الذي سيهز العالم ويقضي على فكرة الدين يجيب على سؤالين اساسيين، من أين اتينا وإلى أين سنذهب أو ما هو المصير، وهما السؤالان اللذان تقوم عليهما كل الديانات في العالم، ومن ثم فإذا ثبت خطأ الديانات في تصورها عن بداية الخلق والمصير الذي سيذهب إليه البشر فسوف تسقط الأساطير ويخرج الدين من المعادلة الإنسانية ككل.
حين يبدأ الكمبيوتر العظيم في عرض الفيلم الذي يوثق لاكتشاف إدموند نجد أنفسنا أمام "الفنكوش" الذي لهثنا خلفه على مدار أكثر من أربعمائة صفحة، حيث يذهب الكلام الكثير بتفاصيله العديدة ووثائقة واكتشافاته وعلمائه والمشتغلين عليه إلى أن البشرية والعالم ككل نتاج تفاعل خلق ال دي إن أيه، ومن ثم خرجت السلالات الحيوانية والتي تطور منها الإنسان إلى هيئته الحالية على مدار ملايين السنين، ليصبح في الطور الأخير هو القوة المهيمنة على العالم ككل، لكن حين ندقق في الصورة نجد أن فقاعة أخرى بدأت تظهر في العقود الأخير وتتوسع بقوة حتى أنها ستبتلع البشرية في جوفها، وهي فقاعة الآلة، ومن ثم فالمصير القادم سيكون للآلات، لكن ثمة أمر يدعو للتفاؤل وهو أن الإنسان صانع الآلة أو الذكاء الاصطناعي، ومن ثم لن تستطيع الآلة الاستغناء عنه، وعلينا ألا نجابه الآلة أو نعاديها كي نتمكن من الانتقال إلى الطور الجديد من الحياة.
حين نعتكف بالساعات والأيام لقراءة هذا السفر العظيم لبراون ونجد أنفسنا بعد كل الوعود الكبيرة التي وعدنا بها من السطور الأولى أمام هذه الحقائق التي أصبحت من البديهيات في الحياة، والتي ترددها أفلام الخيال العلمي عن الآلات وثورتها وطغيانها على البشر ورغبتها في الخلاص منهم للسيطرة على العالم، نجد أننا في حالة إحباط عظيم، فقد لهثنا مئات الصفحات لنقف أمام أفكار وخيال لا جديد فيه.
الأكثر دهشة أن الأفكار التي انطلقت منها الروايةـ وهي الرغبة في هدم الدين  وإخراجه من المعادلة الإنسانية تنتهي إلى حركة إصلاحية لإبداء بعض المرونة الدينية في قبول الجدبد في العلم، وعلى غرار كل أفلام الحركة والإثارة  الرديئة نجد الكاتب في الصفحات الأخيرة يكشف لنا عن الأوراق التي خبأها بطريقة المونتاج، فنعرف أن البطريرك صديق الملك بريء من قتل العالم الإسلامي والحاخام اليهودي، وأنه ليس متآمرا على ولي العهد لكنه صديق مخلص ومنفذ لأوامر الملك، وأن الكمبيوتر العظيم هو الذي أجّر القاتل وأطلق الشائعات ووضع الأخبار وهيج الجماهير، وأنه الذي دبر طريقة قتل ادموند أمام الشاشات.
هكذا نكتشف أننا طيلة الوقت كنا أمام وهم كبير وضعنا أمامه الكاتب، فهو  ليس ضد الدين، ولكنه أكثر حرصا على الدين من المتدينين أنفسهم، وأن القتلة ليسوا قتلة لكنهم قديسون، وأن رجال الدين جميعهم أبرياء وأهل خير، وأن العلم العظيم يحتاج إلى عقل كي لا يخرب العالم، وهو ما يذكرنا بما ذهبت إليه رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، وأن الآلات التي نستخدمها ونعطيها كل ما لدينا من فكر وعلم وخبرات هي التي ستقتلنا، لذا لا بحب أن نعلمها كل ما لدينا، وهو ما يذكرنا برواية "حرب مع السمندر" وهي لكاتب تشيكي في أربعينيات القرن الماضي، حيث السمندر جنس حيواني أقل من البشر، يتعلمون بسرعة ويتكاثرون بسرعة لكنهم غير مبتكرين، لذا حين يعلمهم البشر كل ما لديهم سيسيطرون على العالم، لكن لأنهم غير مبتكربن فسوف يقضون عليه، وهي واحدة من الروايات العنصرية التي كانت تطالب الأوروبيبن بعدم مساعدة بلدان العالم الثالث كي لا يهدموا العالم. 

رواية
يمكننا تخيل كيف كتبت الرواية

تتمتع الرواية بمعرفيات كثيرة، حتى أنها قدمت نوعا عظبما من الاستعراض المعرفي عن المدن والتاريخ والعلماء والأدباء والمعالم الإسبانية التي دارت فيها كل أحداث الرواية، حتى بدت كما لو أنها منشور سياحي عظيم عن المعالم الإسبانية، لكن المشكلة أن كل هذه المعارف من السهل الوصول إليها عن طريق معاملات البحث على النت، وأن الاسلوب الذي جاء به النص يؤكد على أن الكاتب لم يعمل على تحرير هذه المعارف وصياغتها بشكل يتناسب مع فكرة رواية أو طرح أدبي يحتفي باللغة والمجاز والبلاغة، وليس مجرد ألة توصيل معلومات للقارئ، وقد نشعر في بعض الفقرات أنها كتبت بصياغة قلم مختلف عن سابقه، وكأننا أمام ورشة كتابة شارك فيها أكثر من شخص، وقام براون بضبط الفصول قدر ما يستطيع وفقا لذوقه.
في هذا الإطار يمكننا تخيل كيف كتبت الرواية، حيث يتم في الاجتماع الأول البحث عن فكرة، وعادة ما تأتي من بحث مهم منشور عن قضية فكرية أو علمية، كتلك الطائفة التي تؤمن بأن المسيح تزوج مريم المجدلية وأنجب منها، وأن نسله لا يزال يعيش بيننا، أو فيلم تسجيلي عن تصور العلماء  لكيف بدأ الخلق، بعدها يتم التفكير في حبكة كبرى وأحداث تشد المتلقي، كان يكون هناك عالم ملحد ورجال دين يريدون قتله، وقصر ملكي متورط، وخطيبة لولي العهد محبوبة من الشعب ومكروهة من الطبقة الحاكمة نظرا لأصولها الشعبية، تبدأ الصفحات في وعودها الكبرى للقاريء دون الكشف عن الموضع أو الفكرة إلا في الصفحات الأخيرة.
هكذا أصبحت رواية البيست سيلر في الغرب عملا جماعيا لا يخص الإبداع الفردي، وهو ما  يجعلها مختلفة عن رواية البيست سيلر في العالم العربي أو العالم الثالث بشكل عام، وإن كان بعض كتاب البيست سيلر لدينا أصبحوا يعتمدون على نوع من الصداقات أقرب لهذه الورش، لكن ليس بشكل احترافي كبير كما في الغرب.
هكذا نجد رواية البيست سيلر تقدم لقارئها وعودا مثل وعود الفنكوش، موقنة أنها في الصفحات الأخيرة سوف يقوم الكاتب بحل مشكلات الكتابة في سطور أخيرة،  مخرجا لسانه للقارئ، وهو يسأله عن رأيه في الوهم الذي اشتغله به على مدار أربعمائة وستين صفحة، أو مائة وسبعين ألف كلمة.