الكورونا عدو ديمقراطي
تساؤلات كثيرة فرضتها أزمة كورونا على المثقف الذي وجد نفسه في مواجهة أزمة لم يكن يتوقعها في زمن التقدم التكنولوجي العائل الذي انسحب على كافة تفاصيل الواقع المعاش للإنسانية، وفي إطار حواراتنا مع المثقفين، كان هذا الحوار مع الباحثة د.ميادة كيالي مدير دار نشر مؤمنون بلا حدود، التي أكدت أن أزمة كورونا فرضت عزلاً مكانياً، وعزلاً مادياً اجتماعياً، ولا أظنها فرضت عزلة، بل على النقيض فتحت القنوات على التواصل العالمي، اليوم العالم كله يتواصل شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً، ولكن عبر العالم الافتراضي، الذي كنا لوقت قريب نحاربه ونلقي عليه باللوم بأنه أخذنا من عالمنا الحقيقي.
وقالت كيالي إن تجليات هذا العزل سنراها في التحول في المزاج العام وفي الهيستيريا المعولمة للحد من انتشار الوباء، وكذلك في الهلع من تداعيات خوف انهيار الأنظمة الصحية، ولاحقاً انهيار الاقتصاد في حال طال أمد الحجر، هذا بالشكل العام لكن إن أتينا للمثقف على وجه الخصوص، فهو الآن مقيد الحركة نعم، لكنه حاضر على كافة وسائل التواصل الاجتماعي كمراقب ومتابع ومحلل ومنظر، وأيضاً كصاحب مسؤولية، ودوره اليوم قد يكون الأهم مقارنة بأدواره السابقة.
ورأت كيالي أن دور المثقف قد يكون الأهم، ففي ظروف كارثية كهذه تبرز أهمية المثقف كإنسان قادر على المساهمة في توجيه رسائل التوعية، وتنفيذ الأوامر والتوصيات التي تصدرها الجهات الحكومية والجهات الصحية المختصة، وحض الجماهير على التقيد بها، ودحض المقولات التي من شأنها أن تقوّض الجهود المبذولة للحد من انتشار الوباء، وخاصة التي تمس الممارسات الدينية، في مجتمعاتنا العربية التي يشكل فيها الدين بطقوسه ورموزه اللاعب الأبرز والمحرك الأقوى لعواطف الجماهير والذي قد يقود تحريكها بشكل خاطئ للتهلكة.
أضف إلى ذلك، سيطرة بعض المعتقدات الصحية والغذائية الخاطئة والناجمة عن الجهل ونقص التعليم والفقر، وهنا يبرز دور المثقف؛ لأنه القادر على تبسيط التقارير والتحليلات والنصائح الطبية التي تنشر على المواقع المهمة والتي من شأنها أن تخفف عن الجماهير ضغط الهلع، ونقص المعلومات، وتضاربها. عدا عن دوره في التحريض على القراءة والنقاش واستمرار التركيز على التمسك بأهمية العلم والمعرفة والممارسات الإيجابية في فترة الحجر.
ونبهت كيالي إلى أن أزمة كورونا ترخي بظلالها القاسية على الجميع، والهلع مما بعدها يتسرب للنفوس بحيث يطل سؤال "البقاء لمن؟". هل البقاء "لمن يستطيع تسطيح المنحنى المتصاعد لحالات الإصابة، كما حدث في الصين، ( flatten the curve) ؟ لتعود عجلة الحياة من جديد رغم الحصار الاقتصادي، أم من المبكر الحديث عن الأبقى والذي سيكون صاحب النفس الطويل في الاقتصاد والذي سيصمد بعد الانهيارات الاقتصادية الكبرى التي ستتلو فترة النقاهة والتعافي من كورونا؟
في ظل ذلك، هل يمكننا الحديث عن الثقافة والمثقفين؟ وحتى لا نذهب بعيداً ولنتكلم من حواضر البيت كما في مصطلحنا الشامي، سأتكلم عن مجال اشتغالي وأنا التي أدير دار نشر أهم مؤسسة عربية للأبحاث والدراسات، فما هي تداعيات الأزمة علينا؟ إن كانت عملية النشر الورقي أصلاً وقبل الأزمة تعاني، وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي تحاول الصمود أمام أسواق منخفضة جداً ووطن عربي معتلّ، يرفل بأوجاعه الإقتصادية والسياسية، بحيث أصبح الكتاب فيه وخاصة الورقي نوعاً من الرفاهية، في ظل الاهتمام بالطعام ومستلزمات الحياة الأساسية، فكيف يكون الأمر بعد الأزمة؟
لا أخفيك يا عزيزي: أنا لا أرى أنه بالإمكان أن نصمد وقد خسرنا أهم المعارض التي نعوّل عليها عادة أكثر من غيرها، في ظل مردود منخفض جداً من العائدات من البيع الإفرادي في المكتبات. أضف إلى ذلك أنّه تم تعليق الندوات والنشاطات في المؤسسة، وتحول العمل الإداري عن بعد، ولا شك في أن الوضع الاقتصادي سيترك آثاره على سائر النشاطات، وقس على ذلك في العديد من المؤسسات ومراكز الأبحاث ودور النشر. إذاً التأثير سيطال الحقل الثقافي وكل العاملين فيه، وأخشى أنهم سيكونون من المتضررين، ولا ندري كيف ستكون أولويات للأعمال بعد كورونا.
ورأت كيالي أن الكثير من المفاهيم الخاصة بالثقافة ودورها ستتغير، وأضافت "انكشفت أحوال الكون وتعرّت الأنظمة والاتحادات الكبرى، وسقطت الأقنعة عن أنظمة كثيرة، وبالتالي سيولد كون جديد بعد كورونا، سيصبح العمل عن بعد هو عصب العمل في عالم رقمي سيفرض نفسه بلا شك، وكذلك التعليم عن بعد، وربما ستكون هناك معاهدات كبرى وستنشأ منظمات لاحتواء انهيار الاقتصاد وتداعياته، وستنبثق تحالفات جديدة. كل ذلك سيغير منظومة القيم والمفاهيم، وسيؤدي إلى ظهور مفاهيم جديدة وأخلاقيات جديدة وثقافة جديدة، ومن المرجح أن تكون ثقافة رقمية تهيمن على كل تفاصيل حياتنا، وتتحكم بنا، وستكون هي القوة الضاربة والمهيمنة".
وحول إذا ما كانت الأزمة ستؤثر باعتبارها مست البشرية جمعاء على اختلاف دياناتها وطوائفها في التخلص من أجواء العنف والتشدد والإرهاب والدعوة للتسامح والسلام، قالت كيالي: حالياً وحتى احتواء الوباء والقضاء عليه، لا بد من تجاوز الحروب والخلافات وتوحيد الجهود، ضد عدو واحد يهدد البشرية جمعاء، الكورونا عدو ديمقراطي، وحّد الجميع في مواجهته، لا يميّز بين غني أو فقير، سياسي موالٍ أو معارض، أو عامل وعاطل عن العمل، أو بين مثقف أو جاهل، مؤمن أو كافر، أبيض أو أسود، سنشهد ربما مصالحات، وتسامحاً ودعوات للصفح والسلام، في محاولة لاحتواء المرحلة وتداعياتها، إلى أن يضع الفيروس أوزاره ويرسو على بر واحد أفقي المسار، فلا ترتفع الأعداد، وتكتحل الجهود باللقاح الحصن الحصين، عندها سينهض الجميع لنفض غبار الحصار، ولملمة الاقتصاد المنهار، وطلب النجدة من الدول الكبرى ذات النفس الأطول والحصانة الأكبر، وتبدأ دورة حياة جديدة على أمل أن نجد لنا فيها مكاناً بأقل الخسائر الممكنة، نأمل ذلك بقلوب يملؤها الإيمان، ولا تزال تعوّل على الانسان، وعلى انتصار خيريته على الروبوت الذي اخترعه. ولا أظن أنه، مهما وصل به من تطور، يستطيع أن يذرف دمعة في لحظة ألم أو يبتسم عند رؤية حبيب.