اللامركزية أفضل من المادة 95

بعد تجارب الماضي، القديم والحديث، لم يعد يحق لأي طرف مسيحي، ديني أو مدني، رسمي أو حزبي، أن يقرر منفردا مصير المسيحيين في لبنان.

يشاهد اللبنانيون حاليا، بالمباشر، سير معركتين: الأولى بين اللبنانيين والفلسطينيين، عنوانها عمل اللاجئين الفلسطينيين، ومضمونها التوطين؛ والأخرى بين المسيحيين والمسلمين، عنوانها المادة 95 من الدستور، ومضمونها مصير المساواة في صيغة التعايش المسيحي/الإسلامي في لبنان. المستفيد من هاتين المعركتين، حتى الآن، هو حزب الله لا الفلسطينيون ولا المسيحيون ولا المسلمون، ولا لبنان استطرادا. لكن المؤسف أن قيادات إسلامية اصطفت فطريا إلى جانب الفلسطينيين، وقيادات مسيحية ظنت أن المادة 95 ستعيد "الحقوق المسيحية السليبة". ما عاد تعديل مواد وظيفية يصحح وضع المسيحيين، بل تعديل في قياداتهم. والباقي يأتي لاحقا.

فتحت المعركة الأولى غداة تصفية القضية الفلسطينية وإسقاط "حق العودة"، وفتحت الأخرى غداة اغتيال الصيغة اللبنانية وامتناع القوى السياسية عن مواجهة الحقيقة المرة. أخطأت المنظمات الفلسطينية في فتح المعركة لأنها قدمت هدية إلى "صفقة القرن". فالفلسطينيون في لبنان يرفضون التوطين بالاسم ويمارسونه بالفعل. وإذ يفعلون ذلك فلأنهم فقدوا الأمل بالعودة إلى وطنهم المحتل، وليس لأنهم يفضلون لبنان على فلسطين. وأخطأ التيار الوطني الحر في طرح الموضوع الدستوري خلسة لأن تعديل "الطائف" يكون بتقديم مشروع دستوري متكامل بديل، وليس بالقنص على هذه المادة منه أو تلك، وبمبادرة منفردة. علما أن حلفاء التيار الوطني، أي حزب الله وسائر 8 أذار، هم ضده في إعادة تفسير المادة 95، أكثر من أخصامه في 14 آذار. فعلى من الاتكال؟

في المعركتين ضاع الحكماء وانتحى الوطنيون، وانقسم اللبنانيون طائفيا كأننا في عز حرب السنتين سياسيا، وكأن ما ظننا أنها وحدة لبنانية، بعد تجارب الحرب واتفاق الطائف وتفاهم مار مخايل وثورة الأرز وميثاق الشهداء، لم تكن سوى صحوة لحظة في غيبوبة دائمة. في المعركة مع الفلسطينيين تبين أن المسلمين، سنة وشيعة ودروزا، ما زالوا يعتبرون اللاجئين الفلسطينيين "العدد الرديف" بعدما اعتبروا السلاح الفلسطيني، في السبعينات، "الجيش الرديف". وفي المعركة حول الصيغة كشف المسلمون أن قول "أوقفنا العد" هو "واجب تعزية"، إذ إن العد قائم في جميع مؤسسات الدولة. وهكذا ظهر أن تحالف قوى مسيحية مع "السنية السياسية" لم يشمل "أي لبنان نريد؟"؛ وأن تحالف قوى مسيحية أخرى مع "الشيعية العسكرية" لم يشمل كذلك "أي لبنان نريد؟". اقتصرت التحالفات على رئاسة الجمهورية ونأت عن مصير الجمهورية؟

قد تكون إثارة المادة 95 ضرورية لامتحان هذه التحالفات وللحد من اجتياح وظائف الدولة، لكن، أيهما أفيد للمسيحيين ولسائر اللبنانيين: تفسير المادة 95 المتنازع عليها طائفيا أم تطبيق مشروع اللامركزية المتفق عليه وطنيا والمنصوص عليه في اتفاق الطائف والجاهز للتنفيذ؟ في السبعينات طالب المسيحيون باللامركزية، وفي التسعينات تبناها المسلمون أيضا، فلماذا تتأخر الدولة في تطبيقها؟ إن الدولة المركزية أصبحت عاجزة عن تلبية "حقوق" المكونات اللبنانية بانتمائها الطائفي أو الوطني، وصارت اللامركزية الإطار الدستوري والإداري الذي يعوض عن تقصير الدولة المركزية حيال الخصوصيات الطوائفية والمناطقية والحضارية. أكثر من ذلك: مع تآكل الدولة المركزية ومصادرة قدراتها، تبدو اللامركزية الحل الباقي للحفاظ على وحدة الدولة ومنع سقوطها النهائي والولوج إلى الكونفدرالية الكاملة أو إلى التقسيم.

بعد تجارب الماضي، القديم والحديث، لم يعد يحق لأي طرف مسيحي، ديني أو مدني، رسمي أو حزبي، أن يقرر منفردا مصير المسيحيين في لبنان، ويحدد مصلحتهم وحقوقهم وواجباتهم، والتحالف المفيد، أمع الأقليات أم مع الأكثريات؟ والشكل الدستوري المناسب دورهم: أدولة مركزية أم لامركزية؟ أفدرالية أم كونفدرالية؟ أوحدة أم تقسيم؟ شبع المسيحيون تفردا يرث تفردا وفشلا يعقب فشلا وتنازلا يتلو تنازلا: من مشروع لبنان الكبير المترنح، مرورا بالاستقلال الملتبس والميثاق المعطوب، وصولا إلى "الطائف" السيئ التطبيق. وشبع المسيحيون آراء مغامرين، وطروحات تقليديين، وهلوسات متدرجين، ومشاريع مراهقين، ومنطق ذميين. نتعطش للجرأة والإقدام، للاعتراف بالأخطاء وسوء الخيارات. نتعطش لقول كلمة الحق إلى جانب أهل الحق، وهم من كل المكونات، في وجه أهل الباطل، وهم أيضا من كل المكونات. كم تناسل أهل الباطل بين المسيحيين. كنت أظن الباطل عاقرا.

إن تقرير مصير المسيحيين يبدأ بلقاء المرجعيات المسيحية الدينية والسياسية والفكرية في خلوات مفتوحة كما فعلت "الجبهة اللبنانية" في خلوات "سيدة البير". هل كان على خطإ بيار الجميل وكميل شمعون وسليمان فرنجيه وبشير الجميل وشارل مالك وإدوار حنين وجواد بولس؟ هل كان جميع هؤلاء العمالقة على خطإ في خياراتهم، وعلى حق قيادات اليوم؟

نريد خلوة يناقش فيها الوجود المسيحي في لبنان وبلاد الانتشار استنادا إلى دراسات محضرة علميا من أهل التاريخ والجغرافيا والسياسة والديبلوماسية والاجتماع والدستور. في نهاية ورشة العمل يخرج المجتمعون بورقة توافقية (التوافق غير الإجماع) تتضمن المشروع اللبناني الجديد. يعرض المشروع على رئيس الجمهورية والبطريرك الماروني، ثم يناقش بروح ميثاقية مع الشركاء في الوطن، الدروز والمسلمين، سنة وشيعة. نتفق أو نفترق، ولا بد من أن نتفق. هكذا تطرح القضايا المصيرية، وهكذا تبنى الأوطان وتصل الحقوق إلى كل مكونات الأمة، وهكذا كل مكون يعطي الأمة حقوقها.

لم يعد خافيا على اللبنانيين أن المسيحيين غير مرتاحين إلى وضعهم في لبنان الحالي. يشعرون، صادقين، بالغبن والتهميش والإحباط، هم الذين ناضلوا لإنشاء دولته الحديثة. ولم يعد خافيا على المسيحيين أن أسباب هذا الواقع تعود أساسا إلى سيطرة مشروع نقيض فكرة لبنان على دولة لبنان، كما تعود إلى خيارات عسكرية وسياسية سار فيها بعض قياداتهم وأساءت إليهم وإلى القضية اللبنانية.