المتاهة التونسية والتجربة المصرية

الكل في الهم إخوان، لا فرق بينهم في تونس أو مصر.

يبدو أن راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في تونس مصمم على ادخال بلاده في متاهة سياسية بعد مظاهرات نظمها أنصاره من نحو أسبوعين، خرج فيها آلاف من مناصريه في العاصمة للإيحاء بقوة تنظيمه وشعبيته في الشارع، وتوظيف الحشود عند تفاقم خلافه مع الرئيس التونسي قيس سعيد، في رسالة هدف منها تعزيز نفوذ حركته الإخوانية.

المثير أن الغنوشي يشغل منصب رئيس البرلمان، أي السلطة المنوط بها مهمة التشريع ووضع الضوابط القانونية ومراقبة أعمال الحكومة، وحركته بمثابة حزب حاكم حاليا، وبدا كأنه يتظاهر ضد نفسه. فالمعارضة تلجأ للشارع كأداة للضغط على السلطة التنفيذية واحتجاجا على تصرفاتها، ولم نسمع عن حزب يتظاهر ضد حكومته. لكن ما قام به الغنوشي يتسق مع التصورات الغريبة لتنظيم الإخوان في المنطقة.

سبق أن فعلت ذلك قيادات الجماعة بمصر في عهد الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي، وقامت بما هو أكبر من المظاهرات، حيث دبرت اعتصامات أمام بعض الأماكن الحيوية في القاهرة، وانتهى الأمر بها إلى التلاشي من السلطة ومن الشارع أيضا، لأنها لم تتحل بالحكمة السياسية، ولم تفهم معنى المسؤولية الرمزية، واختارت العنف والعشوائية وارباك جهاز الدولة منهجا لتحقيق أغراضها.

جهزت الحركة سيارات لجلب المتظاهرين من أنحاء تونس كعلامة على قوتها في الحشد، كما كان يفعل الإخوان في مصر لعدم الثقة بشعبيتهم في العاصمة، وأثبتت النهضة، من حيث لا تدري، أن أتباع الجماعة في كل مكان يتبنون تصورات بائسة واحدة، ويتعايشون على المظلومية ويحرضون على الإنفلات ويعملون على خلط الأوراق عندما يجدون أنفسهم في مأزق أو تحاصرهم اتهامات.

يقبع الغنوشي في صدارة السلطة أو بالقرب منها منذ حوالي عشر سنوات، ويحمل معارضيه تبعات الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تعد حركته أحد الأسباب الرئيسية لها بعد أن أعاقت النمو المنتظر لتونس على مستويات متعددة.

يتجه إخوان تونس إلى السير على درب إخوان مصر وضرب عرض الحائط بالفرصة التي سنحت لهم، والإنزلاق تدريجيا نحو القاع، وإعادة تكرار نتائج الجملة الشهيرة التي ترددت وقت اندلاع الثورة، وهي أن مصر ليست تونس وثبت عدم صحتها بعد أن مضت على طريقها في الاحتجاجات، وسقط نظام حسني مبارك كما سقط قبله نظام زين العابدين بن علي، حيث عاشا ظروفا متشابهة تقريبا.

حققت تونس تقدما لافتا على المستوى الديمقراطي، ثم قيل أن إخوان تونس يختلفون عن نظرائهم في مصر الذين سقطوا في سيناريو التعجيل بالتمكين، وأظهرت النهضة مرونة شدت أنظار المراقبين إليها، باعتبارها تؤمن بالحوار مع الآخر وضوابطه السياسية وتتبنى منهجا معتدلا ومنفتحا، وجرى الترويج لذلك لتحاشي تداعيات تجربة الإخوان الفاشلة بمصر، عير أنها تمضي على خطاها السياسية.

استوعبت حركة النهضة الدرس وبدت لكثيرين كأنها جاءت من كوكب آخر عندما تظاهرت بالتريث وارتدت ثوب الرشادة، وحاولت عدم استفزاز الشارع، واقتربت من قوى عديدة، في إشارة أوحت بأن عباءتها السياسية تتسع لجميع القوى، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وقادرة على التعاون من منطلق مدني وليس دينيا.

دخلت تحالفات وخرجت منها، ثم عادت إليها، ونسجت روابط على قاعدة الانتهازية، مكنتها من قيادة المشهد عبر ألاعيب ومناورات مختلفة إلى أن بدأت بعض القوى التونسية تفهم حجم المغالطات وتعيد النظر في التعامل معها، ما جعل جهات الرفض تتزايد وينفض عنها البعض لصالح الالتفاف حول الرئيس قيس سعيد الذي بات رقما مهما في معادلة الحكم وعلى غير هوى النهضة.

أخذت الأزمة تشتد عندما تيقنت الحركة أن سعيد ليس لقمة سائغة تستطيع هضمها بسهولة، وهو ما أوجد نوعا من التناقض بينه ورئيس الحركة ورئيس البرلمان، حيث نجح الأخير في فرض قبضته على الحكومة، وأخفق في تكرار الأمر نفسه مع مؤسسة الرئاسة، وازدادت الفجوة مع كل خطوة يقوم بها الغنوشي لاستعراض عضلاته ومد مخالب حركته في الشارع وداخل البرلمان، ويجد صدا من الرئيس سعيد.

وصلت الأزمة إلى مفترق طرق خلال الأيام الماضية، فإذا لم تتمكن الحركة من الهيمنة بسلاسة فعليها أن تفرضها باصطناع القوة، فتارة تحض على المظاهرات، وأخرى توحي لمتطرفين بشن هجمات إرهابية، وثالثة تعمل على توسيع مساحة الأزمة مع الحزب الدستوري، ورابعة تتعمد تعقيد المشكلات الداخلية وتقتات عليها، لأن استقرار الأمور من ألد أعداء حركات الإسلام السياسي.

تسببت ممارسات النهضة في هز التجربة الديمقراطية في تونس التي بدت لكثيرين زاهية وواعدة، وخرقت العرف العربي في ملف الثورات، وبدت استثناء في نجاحها بعد اسقاط بعض الأنظمة، لكن عقائدية الإخوان تأبى استمرار الاستثناء إذا وقف ضد مصالحها وتسعى لتدميره، وتختار الفوضى طالما تعارض الاستقرار مع أهدافها.

تسير النهضة بتونس إلى منزلق خطير، وقد تهدم واحدة من النماذج الجيدة في المنطقة، فجموح رئيسها والتحركات المندفعة لن تحمي حركته، وتثبت أن الكل في الهم إخوان، لا فرق بينهم في تونس أو مصر، فالنبع الذي خرجت منه التنظيمات الفرعية يعود إلى الحركة الأم التي وقعت في أخطاء قاتلة ويصمم كل من يسيرون خلفها على تكرارها، اعتقادا بأن الخطأ في التطبيق وليس المنهج.

تفك هذه المسألة شفرة لغز الإخوان، فأينما وجدوا، في السلطة أو المعارضة، في مصر أو تونس، في الشرق أو الغرب، فالفعل الإخواني يبقى متطابقا، والنتيجة في النهاية تكاد تكون واحدة. أزمات ومتاهات مستمرة.

إذا فشلت الأحزاب السياسية والقوى الوطنية في التصدي لحركة النهضة ووقف نمو ميولها العدوانية سوف تدخل تونس طريقا وعرا في ظل تضخم المتطرفين وتسرب عناصر كثيرة من خارجها.

وهو تحدٍ كبير يواجه أجهزتها الأمنية التي حاولت النهضة تدجينها السنوات الماضية، لأن الحركات الإسلامية تنزعج من قوة ومتانة وتماسك المؤسسات العسكرية والشرطية والاستخباراتية الرسمية، وترى في تخريبها حلا لجزء معتبر من المشكلات التي تواجهها لفرض قبضتها في حالتي العقد والحل.