المقاربة الروسية الصينية للأزمة الفنزويلية

يبدو أن الأساس في العلاقات الدولية صار التدخل في الشأن الداخلي للدول.

في وقت بدأت الأزمة الفنزويلية تتخذ مسارات داخلية مختلفة تعكس واقع التنافس الدولي الحاد، والذي يعكس رؤى روسية صينية جديدة، هي مزيج من خلفيات اقتصادية وجيوسياسة، متعلقة برؤية الدولتين للطموحات المتصلة بإدارة النظام العالمي القائم وما يمكن أن ترسو عليه الأمور مستقبلا. فثمة مظاهر كثيرة رسمت مؤخرا السياق العام التي تتجه به مفاصل إدارة الأزمة بين الولايات المتحدة وروسيا والدخول الصيني الواضح على خط الأزمة.

أولها، رفع منسوب التوتر القائم، ظهر عبر مطالبة واشنطن بسحب الخبراء العسكريين الروس من فنزويلا والذي توسّع عبر تمرير ادعاءات بوجود عمليات شحن لعتاد وعديد ذات طابع نوعي استراتيجي، وتدرج مؤخرا إلى الإعلان الأميركي عن التوجه لفرض سلة عقوبات إضافية على كراكاس تجلت بأزمة الكهرباء والماء، والتي قوبلت بإجراءات دستورية طالت خوان غايدو المدعوم أميركيا.

وعلى الرغم من الوجهة الظاهرة للتنافس بين الأطراف الدولية الفاعلة على الموضوع الاقتصادي التي تشير إليه موسكو من بوابة الاتفاقيات النفطية التي تبلغ 3.1 مليار دولار وهو مبلغ متواضع لتنفيذ سياسات دولية، إلا أن الأمر غير المعلن يأتي برؤى جيوسياسية تطال قارة بكاملها وبالتحديد المنطقة اللاتينية التي تعتبر فنزويلا مدخلا رئيسا لإعادة ترتيب أوضاعها، الأمر الذي تعتبره واشنطن مسّاً بأمنها الحيوي باعتبارها منطقة تمثل الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.

مع تصاعد هذه السياقات يبدو أن واشنطن مصرَّة من جهتها للرد عبر سياسات سبق أن جربتها مع الاتحاد السوفياتي على قاعدة الاحتواء والانقضاض اللاحق، الذي بدأته بتطويق كل من موسكو وبكين بشبكة قواعد عسكرية ومنظومات إستراتيجية مقلقة، تُوّج مؤخرا بفتح ملف معاهدة الصواريخ البالستية المتوسطة المدى والتي استلزمت جهدا كبيرا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي للتوصل إليها عبر سالت1 وسالت 2، والتي أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب منها، ومن ثم ردّت موسكو باتجاه مماثل فيما بعد، وما فتح موضوع المستشارين العسكريين الروس في كراكاس إلا مقدمة لربط نزاع من نوع آخر من المحتمل أن يتعزز لاحقا عبر إثارة موضوع نشر صواريخ إستراتيجية روسية لمواجهة واشنطن في القارة اللاتينية، الأمر الذي يعيد التذكير في أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1961 التي كادت أن تشعل حربا نووية آنذاك.

في الجهة الصينية المقابلة وان يكن الظاهر جانبا اقتصاديا نفطيا، إلا أن ثمة رؤى صينية تُقرأ من زاوية أخرى، قاعدته التوتر الأميركي الصيني الحاد في بحر الصين، وحاجة بكين أيضا إلى ملفات أخرى للضغط ومقايضة المصالح عبر الأزمة الفنزويلية، الأمر الذي يتقاطع دون تباين حاد بين موسكو وبكين، ما يعزز ذلك المسار في إدارة الأزمة من وجهة صينية روسية، قاعدته الأخرى مواجهة الولايات المتحدة في خاصرتها الرخوة.

وفي مقاربة بسيطة وواضحة حول الدخول في الأزمات الداخلية التي سرعان ما تتطور إلى أزمات إقليمية ودولية، يبيّن مسار الأزمة السورية بملفاتها المتشعبة كنموذج لإمكانية استنساخها في الأزمة الفنزويلية القائمة حاليا مع بعض الفروق. وبمعنى آخر ثمة تشابه وتماثل في نتائج الاستثمارات المتبادلة في الأزمات القابلة للامتداد من قبل الفواعل الدولية القادرة على لعب ادوار حاسمة في مثل تلك الحالات ومن بينها الأزمة الفنزويلية مثالا.

وفي أي حال من الأحوال، ثمة ظاهرة باتت ممتدة في العلاقات الدولية وهي سحق مبدأ سيادة الدول التي تتقاطع فيها المصالح الدولية، بحيث تصبح مرتعا خصبا للتدخلات وتبادل الأدوار بهدف صرفها في وجهات أخرى، ويبدو النموذج الفنزويلي واضحا لجهة إدخالها في لاعبين جدد ومن بينهم الصين التي تمتلك إمكانات وازنة على الصعيد الدولي، الأمر الذي يتيح لها ترقية موقعها في النظام العالمي المفترض لاحقا. لكن السؤال الأهم في هذا الأمر أين موقع ومصلحة تلك الدول التي تُدار الأزمات فيها وعليها. سؤال محيّر لكن تبدو الإجابة عليه واضحة دون كلام.