المقدسات وحدود استخدامها عبر التاريخ

المقدسات تسمية كثر تداولها في العصر الحاضر بعد أن باتت تطلق جزافا على كثير من الأشياء والمعالم غير المتعارف عليها على خلاف ما جرى عليه العرف في توصيف وتسمية المقدس.

كثر تداول " المقدسات" في عصرنا الحاضر، وبخاصة بعد أن راحت تلك التسمية تطلق جزافا على كثير من الأشياء والمعالم والأشياء المستحدثة غير المتعارف عليها بالرغم من انه لم يرد فيها نص قرآني أو حديث نبوي  أو حتى من فقهاء الإسلام الذين حرصوا على أن لا تطلق تلك الكلمة إلا على المقدسات التي جرى العرف على إطلاق تلك التسمية عليها، وهي تختص بالخالق سبحانه وتعالى في المقام الأول، وبيته الشريف (مكة المكرمة) و المدينة المنورة ( مسجد الرسول) ، وبيت المقدس ، وهي الوحيدة التي يشد إليها الرحال ، كما قال الرسول محمد ( ص) ولم يتعارف العرب في الجاهلية على تقديس أيا كان مهما بلغت مراتبهم ومقامهم، فيما بعد وحتى الأصنام التي عبدوها لم يصلوا بها إلى مرحلة "التقديس" إلى أن هجروا عبادتها بعد دخولهم الإسلام.

يطلق مصطلح "المقدَّس" في لغة العرب عادة على الأماكن المقدسة الثلاث وهي: مكة والمدينة والمسجد الأقصى، ولم يرد في نصوص لغة العرب أن أطلق لفظ "المقدس" على النبي (ص) أو حتى القرآن الكريم، بل غالبا ما يوصف  القرآن من قبل الخالق جلت قدرته، بأنه "مبارك" أو "مطّهر".

ويؤكد المهتمون بعلوم الدين والفقه أن القرآن الذي هو كلام الله هو أحق بالطهر والتقديس من كل كلام فهو مطهر عن كل عيب ونقص ومقدس عن الخطأ أو أن يشتبه بكلام البشر، لكننا مع ذلك نرى أن وصفه ذلك لا يعني أن يطلق عليه أنه الكتاب المقدس على سبيل التسمية أو اللقب الملازم له كما هو حال النصارى مع كتابهم لأننا لم نعرف ذلك عن السلف مثل تلك التسمية، ويخشى أن يكون فيها أيضا نوع تشبه أو محاكاة لأهل الكتاب مع كتابهم كما يقال .

وفي "تفسير السعدي" (ص 449) " (قُلْ نزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) وهو جبريل الرسول المقدَّس المنزه عن كل عيب وخيانة وآفة".

وقال تعالى (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) المائدة/21 .

وقال ابن كثير رحمه الله  "فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ  أي المطهرة " (تفسير ابن كثير 3 / 75 ) وقال ابن عاشور رحمه الله "والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة أي الّتي بارك الله فيها" (التحرير والتنوير 6 / 162).

وجاء وصف القرآن الكريم بأنه "مُبَارك  في قوله تعالى ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) وقد جاء وصف القرآن بأنه مطهَّر في قوله تعالى (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) البيِّنة/ 2 .

ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مطهر مبارك منزه عن كل ما يعيبه ويشينه وينقص من قدره وشأنه حاشاه صلى الله عليه وسلم فإننا لا نرى أن يطلق عليه وصف 'المقدس' أو يقرن ذلك باسمه ولا نعلم أحدا من أهل السلف أو أهل العلم والسنة والأتباع قد فعل ذلك معه صلى الله عليه وسلم ولا نعلم أيضا أنه أطلق عليه ذلك في شيء من النصوص الشرعية ويخشى أن يفتح ذلك باب الغلو والإطراء له بما يخالف هديه ويوقع في نهيه صلى الله عليه وسلم في قوله (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُاللَّهِ وَرَسُولُهُ ) رواه البخاري ( 3261 ).

ويقول صاحب اللسان أن المقدس هو المطهر ومن هذا الأرض المقدسة وبيت المقدس. والشيء عند المسلمين يكون مقدسا باعتبار تقديس الله خالق الكون والعالم بقدر الأشياء ومكانتها، فما جعله الله من شعائره يقدسه ويعظمه المسلم. ومن المقدسات التي عظم الله شأنها الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومنها المساجد والكتب المنزلة عند الله.

وسبب تقديسها كونها من شعائر الله التي أشعر بعظمة شأنها ولا يقدس المسلم شيئا لم يقدس في شرع الله تعالى مهما كان حال من يقدسه من أصحاب الديانات الأخرى الباطلة وأما ما عظم الله شأنه كبيت المقدس وكالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وكالأنبياء الكرام، فكل هذا مقدس عند المسلمين نظرا لتعظيم الله شأنه.

المقدسات في عهود ما قبل التاريخ

بنى الناس في عهد الديانة الجرمانية التي كانت منتشرة في ألمانيا ودول إسكاندنافيا قبل الميلاد، معابد لآلهة السماء وملأوها بالأواني الفخارية والحجارة وجعلوا المعابد مقدسة وكذلك محتوياتها لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهة السماء تنزل إلى الأرض في أوقات معينة لتساعدهم وتستجيب إلى دعواتهم.

وكان حارس المعبد كاهنا مقدسا. ثم زادوا قليلا ودفنوا موتاهم بالقرب من المعبد وبالتالي أصبحت المقابر مقدسة لارتباطها بالمعبد. وتفكير هؤلاء الناس لا يختلف كثيرا عن تفكير الإنسان البدائي الذي كان يتوقع زيارة الأرواح.

وبحلول القرن الخامس قبل الميلاد تطورت الديانة الإغريقية (الهيلينية) وأصبحت كلها أسرارا يحفظها الكهان فقط، لأن لغتها أصبحت لغة متخصصة لا يعرفها غيرهم، فزاد هذا من تكريم وتقديس الكهان لدى العامة الذين أصبحوا لا يعرفون من ديانتهم إلا ما يقوله لهم الكاهن. وكان لا بد لمن يريد أن يصبح كاهناً أن يبدأ بحفلة تدشين تتضمن تطهيره من الأدناس وتعلم أهمية الأشياء المقدسة في المعبد ثم تعلم كيف يستقبل العلم الخفي أو الوحي من الآلهة في السماء. وكل هذه الأشياء أصبحت مقدسة وإلهية ولها شعائر يقوم بها الكاهن في ترتيب خاص لا يتعداه. وأصبح الكاهن يلبس ملابس خاصة تفصله عن العامة من الناس.

ثم جاءت الديانة اليهودية فجعلت الألواح التي أعطاها الإله يهوه لموسى، مقدسة، وكذلك التابوت الذي احتوى على الأحجار المقدسة وبعض الأشياء الأخرى. وجعل الإله يهوه هارون وأبناءه حفظة هذا التراث المقدس. وطوال تيههم في الصحراء كان هارون وقبيلته مسؤولين عن حمل التابوت والخيمة الخاصة التي تُنصب له كلما حطوا رحالهم. ومن ثم أصبح هارون وخيمة التابوت وأبناؤه مقدسين. وعندما استقروا في أرض الميعاد حثتهم التوراة على إحراق معابد القبائل الفلسطينية وجعل معابد اليهود هي الوحيدة المقدسة. ومنعت اليهودية المرأة من الاشتغال بالمعابد أو الكتب المقدسة. وحتى إله بني إسرائيل كان مولعاً بالمقدس فقال لموسى (1 وَقَالَ -لرَّبُّ لِمُوسَى: 2 قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْبَهَائِمِ. إِنَّهُ لِي ) (سفر الخروج، الإصحاح 13)، فالبكر من الناس ومن البهائم أصبح مقدساً للإله يهوه. ثم زاد الإله يهوه في طلباته فقال لموسى إذا نذر شخص أن يعتكف للإله يهوه، فيجب أن يكون طاهراً قبل أن يدخل المعبد ليعتكف ولا يقترب من الموتى لأن الجثمان الميت قذر، ولا يقترب من الخمر ولا يحلق رأسه، فقال: (3 فَعَنِ الخَمْرِ وَالمُسْكِرِ يَفْتَرِزُ وَلا يَشْرَبْ خَل الخَمْرِ وَلا خَل المُسْكِرِ وَلا يَشْرَبْ مِنْ نَقِيعِ العِنَبِ وَلا يَأْكُل عِنَباً رَطْباً وَلا يَابِساً. 4 كُل أَيَّامِ نَذْرِهِ لا يَأْكُل مِنْ كُلِّ مَا يُعْمَلُ مِنْ جَفْنَةِ الخَمْرِ مِنَ العَجَمِ حَتَّى القِشْرِ. 5 كُل أَيَّامِ نَذْرِ افْتِرَازِهِ لا يَمُرُّ مُوسَى عَلى رَأْسِهِ. إِلى كَمَالِ الأَيَّامِ التِي انْتَذَرَ فِيهَا لِلرَّبِّ يَكُونُ مُقَدَّساً وَيُرَبِّي خُصَل شَعْرِ رَأْسِهِ. 6 كُل أَيَّامِ انْتِذَارِهِ لِلرَّبِّ لا يَأْتِي إِلى جَسَدِ مَيِّتٍ. 7 أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَأَخُوهُ وَأُخْتُهُ لا يَتَنَجَّسْ مِنْ أَجْلِهِمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ لأَنَّ انْتِذَارَ إِلهِهِ عَلى رَأْسِهِ. 8 إِنَّهُ كُل أَيَّامِ انْتِذَارِهِ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ. 9 وَإِذَا مَاتَ مَيِّتٌ عِنْدَهُ بَغْتَةً عَلى فَجْأَةٍ فَنَجَّسَ رَأْسَ انْتِذَارِهِ يَحْلِقُ رَأْسَهُ يَوْمَ طُهْرِهِ. فِي اليَوْمِ السَّابِعِ يَحْلِقُهُ) (سفر العدد، الإصحاح السادس)، فليس هناك أي منطق في جعل الخمر أو العنب نجساً أو جعل شعر الرأس نجساً إذا مات شخص بالقرب من الشخص المعتكف.

وكيف يصبح الإنسان طاهراً إذا حلق شعر رأسه في اليوم السابع؟ فالتوراة لم تشترط الغُسل للتطهير وإنما حلق شعر الرأس فقط، مما يؤكد أن الطهارة المقصودة في المقدس هي طهارة معنوية.

وما إن جاءت المسيحية حتى سارت بنفس خطى اليهودية وأصبحت كتب الإنجيل مقدسة وكذلك القسيس والكنيسة والدير. ثم زادت المسيحية الغربية بأن جعلت البابا في روما مقدساً ينحنون أمامه ويقبلون يديه. وجعلوه معصوماً من الخطأ عندما يتحدث عن الأمور الدينية. والبابا كان رجلاً عادياً مثله مثل أي قسيس آخر، وعندما ينتخبونه إلى كرسي البابوية يصبح معصوماً. ويصبح للبابا الحق في تطويب الأشخاص بعد موتهم (Canonization). وتعريف "طوّب" هو جعله في عداد الأبرار الذين سينعمون بالخلود. فإذا البابا من حقه أن يجعل الأم تريزا من الأبرار الذين سوف ينعمون بالخلود، فالبابا المقدس هو ممثل الله في الأرض ويمكنه اتخاذ قرارات الخلود بالإنابة عنه.

وجاء الإسلام وجعل المقدس بلا حدود، فالقرآن نفسه قدس المساجد، كالمسجد الأقصى والمسجد الحرام، فقال (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). ثم قدس الأرض فقال عندما تحدث عن موسى: (إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ). وقال كذلك: (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى). وعندما قال الله للملائكة إنه سوف يخلق خليفةً في الأرض، قالوا له: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك).

 فالملائكة قد قدست الله وقدسه البشر كذلك. وقال قتادة: التقديس هو الصلاة، بينما قال ابن عباس: هو التطهير. وأصبح التقديس من أسماء الله الحسنى، فسموه القُدوس. وقدس المسلمون الرسول وأصحابه وأصبح نقد الصحابة جريمة عقابها القتل. وقدّس الشيعة أئمتهم وظلوا يقولون بعد اسم كل منهم "قدّس الله سره". وحتى الأئمة المعاصرين أصبحوا مقدسين عندهم، وطلبوا من الله تقديس آيات الله العظمى كلهم.

وامتد التقديس بعد ذلك إلى الجمادات، فقدسوا الحجر الأسود الذي قال له عمر بن الخطاب، إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أن رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك. وقدسوا الكعبة التي كانت قد هُدمت أربعة أو خمسة مرات وبناها العرب بأيديهم ويعرفون أنها من طين وحجارة. وقدسوا المصحف أي الكتاب الذي يتكون من أوراق عادية كُتب عليها القرآن. ثم قدس الناس من بعد ذلك مزارات ومقابر الأولياء.

ومن هذا نخلص إلى نتيجة مؤداها أنه ليس هناك شيئا مقدسا ، إلا الله وملائكته والاماكن المقدسة الثلاث: الكعبة والمدينة وبيت المقدس ولا يشمل التقديس الأنبياء والقرآن وكتب الديانات، حتى وان أضفينا عليها بعضا من "الهالة " و"القدسية" هو من باب الاحترام والتقدير ليس إلا.