الملابس والتعدد فيما بعد الحداثة

يمارس الغرب تمرده الخاص على النمطية. هذا لا يعني اننا نتمرد بدورنا على واقعنا.

لا يعرف الكثيرون من المتابعين العرب لهوجة "الملابس الممزقة" القادمة من الغرب والتي أصبحت ذائعة بين الشباب والفتيات في عالمنا العربي، أنه قد يكون لذلك علاقة وثيقة بالفكر الأوروبي في مرحلة ما بعد الحداثة. فالعمارة والفنون التشكيلية والأزياء والأدب كانت من أبرز المجالات التي ظهر عليها تحول أوروبا من مرحلة العقل والحداثة إلى مرحلة تجاوز العقل وما بعد الحداثة.

أوروبا: إنتاج القيمة ثم التمرد عليها وكسرها

نقطة الانطلاق هنا أن أبرز غايات ما بعد الحداثة كان كسر فكرة "النمط القيمي" الواحد السائد، والتأكيد على كسر فكرة القيمة في حد ذاتها تأثرا بفشل مرحلة الحداثة والعقل، التي أنتجت عدة أنماط قيمية وفكرية بديلة عن "النمط الديني" الذي ساد أوروبا. فأزمة الصراع والصدام بين أنماط العقل الأوروبي في مرحلة الحداثة التي أنتجت فظائع وضحايا بالملايين في حروب عالمية مروعة، جعلت أوربا تقفز لمرحلة ما بعد الحداثة وتحاول تمييع فكرة "النمط" أو "القيمة الثابتة" في حد ذاتها، وتؤكد على كسر فكرة النمط الواحد، وطرحت تعدد الأنماط، أو حتى القيمة وعكسها بديلا لذلك (!) في محاولة للهروب من فكرة الصدام بين الأفكار والأنماط التي أنتجها العقل الأوروبي. 

كسر النمط في الأزياء بين الحداثة وما بعدها

نستطيع القول أن الحداثة كسرت الزي التقليدي لسكان أوروبا في العصور الوسطى، وقدمت أزياء جديدة عملية تواكب الواقع ومتطلبات الحياة والعمل في ظل مجتمع نهضوي دخل عصور الصناعة والتجارة الواسعة لأول مرة في تاريخ البشرية. ولكن ظلت هناك بعض القيم الجمالية النمطية والثابتة في مرحلة الحداثة، من أهمها التناسق اللوني، دقة التصميم وأناقته، جودة المادة الخام المصنع منها الملابس.

لكن مرحلة ما بعد الحداثة قامت بعدة خطوات راديكالية في هذا السياق، فضربت تماما فكرة التناسق اللوني فصرنا نرى ألوانا غريبة متداخلة في الزي الواحد للبدل الرجالي مثلا وربطات العنق (كتداخل الأصفر والأزرق والأحمر)، ولم يعد مهما كثيرا نوع المادة الخام المصنع منها الزي، وتم تقديم موضات لها تصميمات صادمة وتكسر الذوق التقليدي لجماليات ما بعد الحداثة. 

تطور الأمر لكسر القيمة وظهور القيمة المضادة في الأزياء

وسرعان ما خطت الأزياء فيما بعد الحداثة لخطوات أوسع من ذلك. فظهرت موضة الملابس القذرة (الديرتي dirty)، والتي تبدو وكأن من يرتديها يعمل في الزيوت والشحوم، فكان يتم عمل تأثيرات على الملابس لتبدو وكأنها شديدة الاتساخ. وكان أن سبقها موضة الملابس المستعملة (سيكوند هاند secondhand)، فكان يتم عمل تأثيرات على الملابس لتبدو قديمة ومستخدمة من قبل.

وأخيرا ظهرت موضة الملابس الممزقة (Torn clothes)، التي يتم عمل تأثيرات بها لتبدو وكأنها ممزقة وشديدة القدم! وهذه الملابس الممزقة تعد نقلة قيمية أخرى في أزياء ما بعد الحداثة، فربما كان "السيكوند هاند" و"الديرتي" من أحد وجهات النظر هو كسر للنمط التقليدي للملابس الجديدة، لكن الملابس الممزقة هي تمرد كامل على فكرة القيمة، وربما كانت النقيض لها!

 عارضة أزياء في باريس
ترقيع الذوق

فرض النمط: وأزمة ما بعد الحداثة 

ولكن الأزمة هنا، أن فكرة ما بعد الحداثة كانت تقوم على كسر النمط وتعدد الأنماط، لكن مؤخرا اختفت من السوق عدة أذواق خاصة في مجال الملابس الرجالية، وأصبح الأمر أقرب لفرض النمط. منذ فترة صرت تطلب أنواعا معينة من الملابس الجينز التقليدية فلا تجدها! وهنا تظهر الأزمة، ماذا يحدث حينما يتحول النمط الذي يدعي كسر الأنماط، إلى نمط وحيد وسائد. لا أعرف هل لذلك علاقة بالمصنعين؟ ولكن لا أعتقد أن الأزمة ذاتها موجودة في الغرب، لأن الفكرة كانت الإتاحة وحرية الاختيار وكسر النمط، وليس من المعقول أن يتحول ذلك إلى فرض للنمط، وإلا كنا في تحول آخر لما بعد الحداثة.

العرب وعلاقة الشكل بالمضمون الضائعة

لذا أعتقد أن اختفاء بعض أنماط الأزياء من السوق المصرية، ربما له علاقة بأمور تجارية ومنافع مادية بحتة من قبل المستوردين. لكن ذلك يجعلنا نشير لأزمة في بنية المجتمع العربي، فهو حتى اللحظة الراهنة لم يستطع الالتفاف حول لحظة تاريخية آنية خاصة به، وينتج منظومة قيم تعبر عنه تنعكس على الفنون والعلوم والسياسة والأزياء. ولهذا يتعاطى مع أشياء وأفكار على مستوى الشكل، ولا يعرف مضمونها أو غرضها. ربما يرتدي شبابه "البنطال الساقط لأسفل الوسط" دون اكتراث أن ذلك إشارة للشذوذ الجنسي! تجري بعض فتياته خلف موضة "الملابس الممزقة" لكنها ترتدي أسفلها ما يداري الجسد! 

دائما ما يفيض العامر على الخاوي. فمتى تَعمر الذات العربية ويأتي فيضها الذي انحسر طويلا، وباتت مصبا يفيض فيه الصالح والطالح.

عن الخضوع والتمرد عليه

يظل الأمر مفهوما في سياقه الاجتماعي الغربي في العلاقة بين الحداثة وما بعدها، العلاقة بين النمط والقيمة الواحدة وبين كسر النمط ومفهوم القيمة والجمال والتمرد عليه، في محاولة للهروب من تاريخ أوروبا الأسود في حروبها العالمية. لكن يظل عجز الذات العربية حاضرا بشدة في فهم وتناول الوافد الأوروبي. وتبقى أزمة السوق العربية في تحول الإتاحة والتعدد في النمط إلى فرض للنمط، في ظاهرة لا أعتقد أنها موجودة في الأسواق الغربية.

ويبقي السؤال إلى متى تعجز الذات العربية عن إنتاج نمط حياة خاص بها. قد يذهب بعض علماء الاجتماع لتطرف فكري في القياس فيقولون أن ضياع الذات والهوية وذوبانهما المستمر في أشكال وافدة، هو مؤشر على القابلية للاحتلال والخضوع للآخر. 

وفي الوقت نفسه تظل فكرة الثورات العربية واستعادتها لشعارات القيم التاريخية الكبرى صرخة في وجه التشظي والذوبان والهزيمة، وتعد محاولة لإنتاج لحظة مفصلية عربية، تنتظم حولها الأشياء وتصطف في البناء من جديد.