عودة "ثورات الميادين" في الشانزليزيه

العيون موجهة نحو باريس، كل يقيس حراكه وفق مسطرته.

انشغل المشهد العربي والمصري بتلقي وتفسير ثورة "السترات الصفراء" أكثر من انشغاله بالثورة نفسها، ذلك لأن ثورة الفرنسيين هذه المرة جاءت على نموذج "ثورات الميادين" التي استلهمت نموذجها من "ميدان التحرير" وأحداث الثورة المصرية التي انطلقت في يناير 2011. فمعظم المشاهد التي شهدها شارع الشانزليزيه وقوس النصر في ميدان شارل ديغول بباريس، تبدو وكأنها نسخا بالكربون من أحداث الثورة المصرية مع اختلاف واحد، وهو ارتداء الفرنسيين للسترات الصفراء.

هذه المشابهة بين النموذجين خلقت استقطابا شديدا في الشارع المصري: أنصار الثورة المصرية تحدثوا على استحياء عن قدرة الشعوب على الثورة باستمرار في وجه حكامهم، ووصلت فرحتهم ذروتها عندما تراجع ماكرون عن زيادة أسعار الوقود، ورضخ لمطالب الثوار بل وارتدى سترة صفراء ليحاول استمالة المتظاهرين؛ أما أعداء الثورة المصرية فتحدثوا عن نظريات للمؤامرة والدور الأميركي في إثارة الأحداث لتحجيم محاولات ماكرون في التمرد على أميركا والدعوة لبناء جيش أوروبي بعيدا عن الناتو، وكذلك ربطوا الأمر بالفوضويين (الأناركيين) دعاة هدم الدولة (الفرنسية)، ونشط بعض الأيديولوجيين العرب المقربين من الأنظمة السياسية في الربط بين ذلك وبين استفحال الرأسمالية ومظاهرها، محاولين التنظير للأمر بعيدا عن النموذج المصري والعربي لثورات الميادين والحراك الشعبي غير المنظم حزبيا وأيديولوجيا.

وأعتقد أن أعداء الثورة المصرية كانوا أكثر ثقة واتساقا مع أنفسهم في مقاربتهم الواضحة لنفي العلاقة بين ثورة الشانزليزيه وثورة ميدان التحرير، والتنظير لذلك بمختلف السبل، فيما كانت نظرة أنصار الثورة المصرية مترددة وتبدو عليها ملامح اليأس الشديد والتأثر بمآل الدعوة للتغير ومصيرها الراهن.

وفي واقع الأمر المسألة أوضح من التأويل؛ ما يحدث في باريس وفرنسا هو أحد التمثلات الكبرى للموجة الثانية من الأثر العالمي لنموذج "ثورات الميادين"، وتفعيل الجماهير غير المنظمة بعيدا عن الأيدولوجيا القديمة وكلاسيكيات الآليات الحزبية، الموجة العالمية الأولى شهدنا أثرها بعد الثورات العربية مباشرة أو بقليل من الوقت، في اليونان وأسبانيا وأميركا اللاتينية، وما يحدث في باريس الآن هو نتاج لكمون نموذج "ثورات الميادين" في الوعي الشعبي العالمي، وانتظاره الفرصة ليخرج مجددا للتعبير عن نفسه.

لكن يجب الإشارة لاختلاف هام ومدخل للتمييز الدقيق بين الحالة العربية والمصرية وبين الحالة الأوروبية والفرنسية -وهي إشارة في صالح النموذج العربي- عادة ما تبدأ مطالب النموذج العربي بما هو قيمي ويتعلق بالهوية والدفاع عنها ليصل إلى ما هو مادي واجتماعي. في حين يبدأ النموذج الأوروبي بما هو مادي واجتماعي إلى ان يصل لما هو قيمي. الأمر أنه لم تصل جماهير أوروبا للوعي الكافي بعد بأزمتها الحضارية منذ عصر النهضة، سواء في الحداثة أو ما بعدها، لتستطيع الحديث مباشرة عن الأخلاق والقيم التي ترتبط في الوعي الأوروبي النمطي الجديد بالعصور الوسطى وأزمتها الدينية هناك، فيكون المادي والاجتماعي هو المدخل الأولى بعيدا عن عقدتهم التاريخية، إنما سرعان ما يتحول لدعوة شاملة للتغيير القيمي والأخلاقي.

الحركات الكبرى في النموذج العربي والمصري تحديدا، هما حركتان ارتبطتا بما يتعلق بالهوية والقيم تمثلتا في الانتفاضة الطلابية المستقلة (2000-2004) دعما للانتفاضة الفلسطينية وضد احتلال العراق، ثم الثورة في 25 يناير ضد قمع وقهر الشرطة المصرية في مواجهة حقوق الناس وكرامتها (قضية خالد سعيد)، وبينهما محاولة لم تكلل بالنجاح الكافي وحظيت بزخمها نتيجة للضغط الأميركي على النظام المصري حينها، وهي حركة كفاية حين حولت شعارات الحركة الطلابية المستقلة وغير المنظمة حزبيا (2000-2004) ومطالبها القومية بالتحرر الذاتي ضد الاحتلال والاستعمار، لمجرد شعارات سياسية عامة ضد السلطة. لكن حالة كفاية والتمرد عليها من كوادر الحركة الطلابية المستقلة في حينه، ورغبتهم في استعادة زخمهم القديم أدى لظهور العديد من الحركات الشعبية المستقلة، هي التي قادت وأدت لحراك 2011 بشكله القيمي القائم على التمرد على تراكمات السياق التاريخي للشخصية المصرية عبر التاريخ.

تمثلات الثورة المصرية في الثورة الفرنسية

نموذج "ثورات الميادين" وإعادة إنتاج ثورة ميدان التحرير واضح للغاية في النموذج الفرنسي، بداية من شعار "إرحل" الموجه للرئيس ماكرون، مرورا بتكتيكات المواجهة واستخدام حجارة الأرصفة والدخان الكثيف في مواجهة قنابل الغاز، وغياب القيادة الواضحة والدعوات والتواصل عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بل في محاولة النظام الفرنسي استخدام بعض رجال الأحزاب التقليدية في مسيرات مضادة. أعتقد أن النموذج الفرنسي لم يصل لنهايته بعد وأن المطالب المادية لا بد ستتسع لتشمل ما هو قيمي يضم الحريات والحقوق وتجاوز أبنية السياسة التقليدية، للبحث في آليات أكثر حرية وخارج سيطرة الأحزاب ورجال الأيديولوجيا القديمة في فرنسا. أعتقد أن الوعي التطبيقي في النموذج الفرنسي نتيجة للممارسة السياسية هناك، سيسبق النموذج العربي/المصدر في هذه النقطة، وهي المنطقة التي فشل وعي الكوادر المركزية للثورة المصرية في موجتها الأولى في يناير 2011 بالمطالبة بها. أعتقد أن النموذج الفرنسي سيطالب بمزيد من التواجد السياسي الشعبي عبر آليات جديدة بعيدة عن سيطرة النظام والمعارضة معا؛ هذا لا بد ما سيتطور إليه وعي النموذج الأوربي بذاته إذا سارت الأمور في مجراها الطبيعي.

ورغم كل المحاولات التي تجري عربيا حاليا لوأد نموذج الثورة القيمية، التي في لبها تحاول أن تتمرد على تراكمات السياق التاريخي وآليات القهر والتنميط والتكيف تحديدا في النموذج المصري، إلا أن نموذج "ثورات الميادين" كآلية طورتها الحالة العربية، سيفرض نفسه عالميا وقد يلتحم النموذجان العربي والأوروبي، بين ما هو قيمي وما هو مادي في لحظة ما.

وسيبقى أمام الثورة القيمية ونموذج "ثورات الميادين" أن تضرب في أحد معاقل الأيديولوجيا القديمة، في أميركا أو روسيا. أميركا تبذل كل الجهود لمنع ظهور تكتل شعبي رئيسي خارج الكتل التي تسيطر عليها الأبنية السياسية والاجتماعية القديمة، لكن إرهاصات ظهور نموذج ثورات الميادين تمثلت هناك أكثر من مرة في الموجة الأولى بعد 25 يناير في أحداث "احتلوا وول ستريت"، وقريبا في ظل الموجة الثانية من التأثر العالمي بنموذج الثورة القيمية وكمونها في اللاوعي، حتى تمثلت في النموذج الفرنسي. أما روسيا فأعتقد ان وضعها مشابه لحد بعيد للنموذج العربي من زاوية ما، فهي تخضع لرقابة داخلية شديدة وتخضع للمزايدة النفسية من رجال الأيديولوجيا القديمة ونظام بوتين في آن واحد، بما سيجعل احتمالات ظهور نموذج "ثورات الميادين" هناك أمرا مباغتا ودون مقدمات. أي أنه سيظهر فجاة وكأنه خرج من العدم. ضيق مساحات التعبير مع وجود مزايدين من الحرس القديم والجديد، سيدعم حالة من الهدوء وعدم التوقع قبل انفجار مدوي.

المعادلة القائمة في النموذج العربي

أما النموذج العربي في مصر تحديدا فقد اختار طريق "القطيعة والصدام" مع دعاة الثورة القيمية وتغيير منظومة القيم التي تحكم المجتمع المصري عبر التاريخ، وآثر إعادة إنتاج التناقضات وزيادة الهوة في بنية التراتب الاجتماعي المصري، ليجعل ثمن موجة ثورية جديدة شديد التكلفة ويحمل مواجهة غير مأمونة العواقب للبلاد، في حين كان يمكن للإدارة السياسية المصرية الحالية أن تحظى بالسبق وتقدم نموذجا لآليات سياسية جديدة في مرحلة انتقالية تفتح بها الطريق أمام الفرز الطبيعي الرائع الذي قدمته الثورة المصرية وكوادرها من داخل المجتمع المصري، وتسبق النموذج الفرنسي الذي لابد ستتجه إليه كوادر فرنسا غير المنظمة كطريق طبيعي لتطور الأمور والبحث عن آليات سياسية جديدة خارج الأطر الحزبية التقليدية.

ما تزال الفرصة سانحة وموجودة أمام النموذج المصري ليطور نفسه بنفسه. فتحويل مشروع العاصمة الجديدة لمشروع سياسي بدلا مما هو عليه كمشروع اقتصادي لزيادة الهوة في بنية التراتب الاجتماعي المصري، تحديدا بين الشرطة والقضاء والجيش ورجال الإدارة العليا وبين بقية الشعب المصري ودعاة ثورته القيمية، يمكن أن تتحول بنية العاصمة الإدارية لثورة على فساد البيروقراطية المصرية التي تستخدم كأحد آليات القهر والتنميط والضبط للمجتمع المصري عبر التاريخ، على أن يصحب ذلك بتوصيف وظيفي حقيقي لدور كل وزارة ومؤسسة، ويسمح للكوادر الحقيقية بتقديم تصوراتها، ويصحب ذلك بمشروع لتفعيل التنوع الجغرافي المصري، واختيار مناطق جغرافية ذات احتمالات اقتصادية متنوعة وكامنة لتصبح بؤرا لإعادة تشكيل النمط الاجتماعي الجديد، وخلق الطريق السلس للثورة القيمية والتمرد على تراكمات السياق التاريخي المصري القديم، الذي كان يستخدمم مؤسسة البيروقراطية ومؤسسة الجيش في غير مهامهما للإدارة والحماية.

ما زال النموذج المصري والإدارة المصرية الحالية يملكان الفرصة لتقديم خطاب جديد، يعيد اللحمة بين المجتمع ويخلق العدل في بناء تراتبه الاجتماعي ويسمح لفرزه الطبيعي بتولى مكانه لصنع منظومة القيم، ماتزال الفرصة سانحة وممكنة لتقدم مصر النموذج للثورة القيمية وتقود العالم في ثورة قيمية حقيقة هى الأولى منذ زمن بعيد.