التدافع الحضاري والتراث الثقافي غير المادي

في مواجهة هجوم القوة الناعمة القادم من الإمبريالية المركزية التقليدية، تجد الشعوب أنها تحافظ على قيمها من خلال اعادة تأهيل التراث اللامادي.

في كل فترة من التاريخ تتطور وتظهر مجموعة من المصطلحات الجديدة يكون لها صفة المركزية، وتعيد صف مجموعة المعارف البشرية وتراكمها من ورائها. فمثلا كان المركز في فترة ما هو مصطلح الحكمة وكان الحكماء لهم السيادة في النموذج البشري ردحا من الزمن، ثم تحول النموذج البشري لتطور مصطلح الفلسفة وكان للفلاسفة مركز واسطة العقد في الظاهرة البشرية، ثم ظهرت مصطلح الأيديولوجيا وكان المُنظِّر وصاحب النظرية هو المركز في ذلك الزمن. ثم ظهر مصطلح "التنمية البشرية" أو "التنمية الذاتية" ليواكب فترة تاريخية ما.. وهكذا.

وفي الفترة منذ نهاية القرن المنصرم ظهر مصطلح "التراث اللامادي الثقافي" كمركز جديد يناسب سياقه التاريخي. فلو نظرنا للأمر من جهة تاريخ تطور علم الخطاب البشري (إذا كان هناك ما يسمي بذلك فرضا)، لقلنا أن الظاهرة البشرية احتاجت لمصطلح جديد تحوله لمركز لها يناسب المرحلة التاريخية تلك، أو بالأصح قطاع ليس بالقليل من الظاهرة البشرية احتاج ذلك.

العالم المادي، والعالم اللامادي

عندما تم إعلان انتصار النموذج الحضاري المادي الغربي في تمثله الأميركي الليبرالي، وانكسار التمثل الغربي السوفيتي الشمولي، حدثت أزمة حضارية في العالم، كان تناقض وجود قطبين في العالم، يسمح لبقية دول العالم في أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تحديدا، بالتحرك في مساحة الصراع بين القوتين المهيمنتين عالميا، كان التناقض بينها يسمح للدول الأخري بمساحة من الحركة تستعرض من خلالها وجودها عبر أشكال متعددة من التمثلات والمظاهر.

لكن بانسحاب أحد النموذجين الغربيين من الصراع دانت السيادة للنموذج الغربي الآخر، ووصل لمرحلة السيادة الحضارية ما سمي بـ "العولمة"، أو انتشار القوى الناعمة اللامادية الأميركية عبر العلم والمعرفة والاتصال وتطور مفردات "الخطاب الأميركي" وسيادتها عبر ذيوع وتبني عادات الأكل والحديث والملابس في دول العالم، هنا شعرت "اليونسكو" كأحد مؤسسات منظمة الأمم المتحدة الفرعية، والتي خرجت للوجود وخضعت لسيطرة العديد من القوى بعيدا نسبيا عن سيطرة الولايات المتحدة ومجموعة من الدول على الأمم المتحدة ذاتها كأداة سياسية تطورت بعد الحرب العالمية الثانية، فشعرت تلك القوى بالحاجة لآلية ناعمة لمواجهة سيادة النمط الناعم الأميركي.

وتمثل ذلك في فكرة تخصيص الموارد لحفظ تراث وعادات وموروثات دول العالم، كآلية للصمود في مواجهة سيادة وعولمة النمط الحضاري الأميركي والتهامه لكل أشكال التنوع والتعدد في الوجود البشري، من هنا ظهرت الحاجة لتطور مصطلح مركزي جديد في "الخطاب البشري" المتراكم عبر التاريخ، وقد كان ذلك في مصطلح "التراث اللامادي"، حيث تحول المصطلح لوسيلة للصمود في وجه فرض النمط الحضاري الأميركي تحت اسم "العولمة". ويمكن القول أن مصطلح التراث اللامادي احتوى داخله مجموعة من المجالات والمصطلحات التي كانت لها المركزية في فترات تاريخية سابقة، منها مجالات الفلكلور، والتراث الشفوي والمرويات، والعادات الشعبية، وفنون الأداء الشعبي..الخ.

التراث اللامادي كآلية لمواجهة التكيف والخضوع

الأبنية الهامشية أحيانا ما تكون طفيليات تعيش وينتجها البناء السائد/المركز، وأحيانا ما تكون وسيلة للمقاومة السلبية أو الصمود تختار الهامش بوعي قيمي، لعدم قدرتها على امتلاك وسائل المجابهة المادية والإيجابية. والتراث المصري الشعبي في معظمه ينتمي للنوع الثاني كوسيلة ناعمة غير مباشرة لمقاومة الاحتلال الأجنبي واحتكار السلطة وتوزيع المصالح عبر التاريخ، كما أثبتت العديد من الدراسات في هذا المجال.

وفي كتابي "المصريون بين التكيف والثورة"، وضعت مقاربة للظاهرة الحضارية متمثلا الحالة المصرية بخصوصيتها، تتمركز حول مصطلح "التكيف" والخضوع للنمط المادي الحضاري السائد وقبوله، ونقيضه في مصطلح "الثورة" والتحول لقوى ناعمة تختار أبنية حضارية هامشية قيمية. والربط بين فكرة الثورة وبين القوي الناعمة أو القيمية أو اللامادية في الحالة المصرية، مرجعه أن النموذج الواقعي المصري عبر التاريخ حتى بناء السد العالي والسيطرة على نهر النيل في القرن الماضي، كان يدعم سيادة نمط مركزي واحد يملك مقومات فرض نمط حضاري واحد بطبيعته.

إنما أشير هنا إلى علاقة مصطلح "التراث اللامادي" بمقاربتي للظاهرة الحضارية بين التكيف والمقاومة، حيث يمكن أن يكون آلية للصمود في ظل دورات الضعف الحضاري، حيث عادة ما تميل الجموع البشرية للتكيف مع النمط السائد أيا كان، ويكون دور النخبة العارفة صاحبة الاختيارات التي غالبا ما تنتمي لـ "القيم الإنسانية الأعلى"، هو الصمود والمقاومة والحفاظ على المختلف وتاريخ الذات الجمعي عبر التأكيد على اختيارات قيمية (لا مادية) متخيلة وغائبة وموروثة، تقف في وجه الانسحاق والاستلاب الحضاري الذى تمثله العولمة بكل حضورها المادي في هذا السياق.

مصر: الهلالية والتحطيب

لقد "اعتمدت منظمة اليونسكو عام 2003 الاتفاقية الدولية لصون التراث الثقافي اللامادي التي وقعت عليها مصر 2005 وحددت الاتفاقية مجالات التراث اللامادي في موضوعات: التقاليد واشكال التعبير الشفهي ـ فنون وتقاليد اداء العروض ـ الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات ـ المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون ـ المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية والتقليدية". ولقد نجحت مصر في أن تدرج كل من السيرة الهلالية، والتحطيب ضمن التراث اللامادي العالمي، كما جرت تجربة مثمنة في محافظة دمياط لحصر قوائم التراث اللامادي وتصنيفها وفق المجالات التي حددتها اتفاقية منظمة اليونسكو، وهناك عدة مشاريع قائمة ويجري العمل عليها لتدرج ضمن قائمة التراث الثقافي اللامادي العالمي.

ولقد دعمت اليونسكو إنشاء ستة مراكز لحماية التراث اللامادي، منها أربعة في أسيا توجد في الصين واليابان، وإيران، وكوريا، وواحد في أوروبا يوجد في بلغاريا، وواحد في أميركا اللاتينية يقع في بيرو، ومؤخرا تم الاتفاق على إنشاء مركز في إفريقيا لحماية التراث اللامادي يكون في الجزائر، بالإضافة للمركز المقام في البرازيل لحماية التراث الثقافي المادي وغير المادي على السواء. ويمكن لمصر بما تحويه من تراث ثقافي لامادي متنوع للغاية التقدم لليونسكو لإنشاء مركز خاص بها يكون هو المركز الثاني في أفريقيا.

خاتمة

يمكن للثقافة أن تسير في طريقين متوازيين في الدورة الحضارية عامة، الأول يكمن في العمل الإيجابي والمبادرة والبحث عن سيناريوهات المستقبل والعمل كرافعة تستكشف طريق المجتمع وتختبر احتمالاته وفرص نهضته واستعادته لذاته المتفوقة. والثاني يكمن في فكرة التأمين أو الدفاع وتحصين الذات في ظل فترات الضعف وغياب النموذج الحضاري القوي المعبر عن الأمة، عبر حفظ ذاكرة الأمة وعاداتها وتقاليدها ومروياتها، وهو ما أصبح ينتظم حديثا ويدرج تحت مفهوم "التراث اللامادي الثقافي".