الواقع وأزمته بين الملاحدة والتكفيريين

التكفيري والملحد، على حد سواء، رد فعل لموقف متطرف من الواقع.

من يعلن تكفير الناس والرغبة في حملهم نحو منطق بعينه للعالم، ومن يعلن أنه لا إله ولا منطق بعينه يحكم العالم، بينهما قاسم مشترك واحد وشديد الإلحاح، وهو العجز عن قبول الواقع أو قبول جزء محدد منه.

هذا العجز عن قبول الواقع قد يتمثل في عدة أشكال؛ عند التكفيري تبدأ من العجز عن السيطرة على العالم والقدرة على التحقق فيه بشكل دنيوي يرضيه، ويرضي غروره الهش. فيلجأ للتكفير ويعلن فساد كل الناجحين فيما فشل ورغبته في السيطرة عليهم من جهة أخرى. وعند الملحد تبدأ من العجز عن قبول واقعة ما والبحث باستمرار عن منطق يبرر تعرضه لهذه الواقعة المؤلمة، وفي النهاية نتيجة لضعفه تجاه تلك الواقعة وآثارها النفسية المستمرة، يعلن غياب المنطق العادل للعالم وأنه لا إله حكيما مدبرا له.

يتفق التكفيري والملحد في عدة صفات؛ غياب القدرة على الصبر، وغياب القدرة على الرضا عن النفس، وغياب القدرة على التعامل مع واقع ما بعينه عند العجز عن تغييره أو فهمه، فيعلن كل منهما فساد ذلك العالم، كل على طريقته، في الحقيقة الأزمة الدافعة والمحركة لكل منهما توجد في الواقع، ولا توجد في السماء.

لا هذا يمثل الرب، ولا ذاك أيقن بغيابه، الأول يختبئ خلف قناع السماء ليبرر عجزه عن التعاطي مع الواقع وفشله في النجاح فيه، والثاني يختبأ خلف قناع غياب الرب ليبرر ما تعرض له من أزمات وواقع مرير، يرى فيه غياب العدل. كلاهما أسيران للوساوس المرضية والتمركز حول الذات.

نعم بالفعل هما من أكثر الشخصيات البشرية تمركزا حول الذات واعتبارها محورا للكون؛ كل منهما يقيس الإشياء بالنسبة له ولا يقيسها مجردة أو بشكلها النظري. التكفيري الفاشل في حياته لا يناقشك في الأفكار الكبرى أو المعايير التي تحكم المجتمع ككل، إنما يناقشك في علاقته بتلك المعايير وكيف أن المجتمع لم يقدر موهبته العظيمة (المتخيلة في رأسه)، لذا فالمجتمع إذن فاشل وكافر ولا يستحق مثل هذا الشخص العبقري ويجب الخروج عليه وتكفيره. ومن سمات التكفيري أنه قد يمارس المنطق ونقيضه في الموقف أو المعيار الواحد، بحجة علاقة ذلك الموقف به أو بالآخرين (الكفرة)، فلو كان الأمر على علاقة به لفسره تفسيرا إيجابيا كوسيلة لتحقيق اهدافه الكبرى والعظيمة من وجهة نظره، وإذا تعلق الأمر بالآخرين (الكفرة) لفسره بشكل سلبي لأن هولاء أصلا فاسدين من وجهة نظره، التكفيري هنا شخص مزاجي وذاتي تماما ولا يملك منطقا مستقيما.

وبالمثل يكون الملحد المتمركز حول ذاته كمحور للكون؛ العدل بالنسبة له والقيم ليست مطلقة في ذاتها، بل هي تتعلق به وبتجربته الشخصية المريرة، هو يعلن فساد المنطق كله كي يبرر عدم قدرته على استيعاب موقف واحد تعرض له، هو شخص شديد التمركز حول نفسه ولا يرى سواها، يتسم بالمزاجية الشديدة فهو أعلن فساد المنطق، وربما يمارس فعلا ما لكن ليس لأنه منطقي، إنما لأنه يريحه وجعله يشعر في حينه بالرضا المؤقت عن نفسه، لكن لا تطلب منه في وقت آخر القيام بالفعل نفسه بدافع المنطق، فهو شخص هوائي يرفض المنطق أساسا وخروجه على المنطق ورائه شيء واحد، وهو تبرير عجزه عن استيعاب تجربة واحدة مريرة مرة به صغيرا، أو ربما تجربة واحدة فقد فيها السيطرة وخرجت عن المنطق، ولم يستطع ان يتجاوز أثرها القوي.

الاثنان، التكفيري والملحد، رد فعل لموقف ما من الواقع؛ التكفيري عجز بعد محاولات كثيرة عن النجاح والتفوق في العالم في ظل شعور دفين داخله بالبارانويا والاضطهاد والتفوق، فيمارس التكفير ليسقط رغبته في تجهيل وقتل هذا المجتمع الذي فشل فيه، ولكن التكفيري أسهل كثيرا في الدمج داخل المجتمع، نظرا لأنه إنسان انتهازي بمجرد ما يتم إلقاء عظمة له، ويشعر بتحققه الفردي ويعوض النقص القديم في حياته، لكن الملحد من الصعب دمجه على المدى الطويل في المجتمع، يمكن أن يتم دمجه لبعض الوقت عندما يشعر بقدرته على خلق حالة منطقية ما داخل المجتمع، لكن فور تعرض هذه الحالة للأزمة والاهتزاز، سرعان ما سيعود لحالة إعلان غياب المنطق كله والإلحاد، ليتوحد مع تجربته القديمة المستقرة في اللا وعي، والتي لا يستطيع التعايش معها سوى عندما يشعر بوجود منطق ما يحكم العالم، بعكس التكفيري الذي سيستمر دمجه في المجتمع فعالا طالما وجد تحت يده النفوذ أو المال أو السلطة، او أيا كان ما يعوض فشله المستقر في ذاكرته وإحساسه بالنقص الدفين تجاه أقرانه من الناجحين. دمج التكفيري سينجح طالما وضعه الاقتصادي والاجتماعي محقق، لكن الملحد دمجه في المجتمع سينجح طالما شاهد منظومة قيم منطقية وعادلة من وجهة نظره في المجتمع.

كلاهما يعبران عن أزمة التعامل مع الظروف غير المواتية، التكفيري يملك إحساسا بالتعالي والعظمة تجاه الواقع الخاص به، ويعتقد أنه يمارس وجوده فيه بأقل جهد من قدراته العظيمة كما يتخيل، والتي بالفعل قد تكون موجودة لكن من ضمن سمات ذلك التكفيري أنه يشعر بالغرور والتعالي وجنون العظمة دون أن يشعر، بما يجعله لا يستطيع أن يركز جهده في مجال واحد ليحقق نفسه فيه، بل يريد أن يضع أنفه في أي مجال ليثبت قدرته على التفوق على الآخرين (الكفار)، لكنه لا يملك القدرة على الصبر والجلد والتحمل ليكمل الطريق في مجال بعينه، فيعلن تكفير المجتمع وتجهيله ليصبح هو بصفاته العظيمة كمريض لجنون العظمة، الوحيد القادر والمؤهل لحكمه.

وكذلك الملحد يعبر عن أزمة التعامل مع الظروف غير المواتية؛ فهو يعتبر نفسه مثاليا ومنطقيا بدرجة ما، ومن ثم يتعالى على الواقع غير المنطقي من وجهة نظره ويتعامل معه بسخرية واستهتار، لأنه من وجهة نظره بلا منطق صحيح ويفتقد للمثال والنموذج، لذا فلا تجد للملحد وجودا قويا في الواقع أو في مجال بعينه، فهو شخص عابر الوجود لا يندمج مع العالم، إلا بالحد الأدنى الذي يكفل مجرد بقائه على قيد الحياة، وقد يهمل مواهبه الطبيعية والفطرية لأنه يرى أنها ترتبط بالمنطق والعدل والمثال الذي يغيب عن الواقع من وجهة نظره، وحتى إذا اشتبك مع مجال ما لفترة قصيرة، إلا أن أزمته القديمة مع الواقع سرعان ما تجعله ينفصل ويتعالى ويعلن غياب المنطق والإله الحكيم.

مربط الفرس في تكوين شخصية الملحد والتكفيري واحد؛ يعود لمراحل الطفولة المبكرة التي لا يملك فيها أيا منهما السيطرة على معظم الظروف المحيطة به. فعادة ما يكون التكفيري طفل منفلت لم يتحمل المسئولية (لأي سبب كان) ولم يعرف التوجيه الذاتي، ولم يجبره المجتمع العائلي - إذا توفر- على شيء بعينه، فيعتاد على الادعاء والافتعال وإلقاء اللوم على الآخرين واستسهال دور الضحية، لكنه حتى يخرج من دور الضحية عليه أن يجعل الآخرين كلهم ضحايا (كفار) ويمارس عليهم دور المسؤولية التي يعتقد أنه يجيدها ولم يحصل على ما يستحقه في الحياة. وكذلك يفعل الملحد بطريقته الخاصة؛ فهو يريد القول أنه كطفل وقع ضحية لغياب المنطق الذي تورط فيه ولم يكن له يدا بذلك، وأن الآخرين هم السبب في تعرضه لذلك الموقف الذي لم يكن له يد فيه، وعادة ما يرتبط غياب المنطق هنا بصدمة جنسية أو دينية، تستقر في العقل الباطن ولا يستطيع تجاوزها، حتى يصل في نهاية المطاف لإعلان غياب المنطق والإله الحكيم العادل.

التكفيري والملحد وجهان لعملة واحدة من ناحية عجزهما في التعامل مع أزمة الواقع؛ ويظل للتكفيري درجات وللملحد درجات، ما بين الوقوع في براثن التشوه النفسي وأزمته أو محاولة مقاومتها أو الشفاء منها تماما. طريق الملحد في قدرته على صناعة المنطق الخاص به، وتحويله من أفعال يومية بلا إيمان راسخ، إلى مبادئ حاكمة أقرب للإيمان واستقرار النفس حتى ولو فسد العالم وذهب منطقه إلى الجحيم، وطريق التكفيري في قدرته على تحقيق ذاته وبناء نجاح خاص به، يرضيه ويمنحه القناعة الذاتية حتى ولو بعيدا عن العالم كله، وفي قدرته على بناء علاقة خفية خاصة بخالقه بعيدا عن الناس، لا يزايد أو يتاجر بها على أحد.

ويبقى لله في خلقه شئون، فسبحان مدبر الكون، فعال لما يريد، وكل ألزمناه طائره، ما بين مثقال ذرة من الشر أو الخير، يتأرجح المصير البشري.