الهروب اللبناني الثالث

يستعد اللبنانيون لمغادرة بلادهم بأعداد لا تقل عن أعداد مهاجري الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية.

لم يعد بالنسبة للبنانيين قضية هجرة اعتادوا عليها وباتت سمة سلوكية في طريقة العيش ووسائله، بل بات الموضوع هروبا ثالثا من واقع ربما لم يشهده مجتمع في تاريخ البشرية والنظم السياسية عبر التاريخ. فلبنان الذي ينفرد بين دول العالم بميزته السكانية التي تبلغ اربعة اضعاف خارجه أي 16 مليون مهاجر فيما الأربع ملايين يتمنون الهرب ان تمكنوا، ذلك بفعل الماسي التي لا تنتهي.

قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها هاجر من لبنان حوالي 330 الفا، وهو رقم مهول لتعداد سكانه قبل تكوين الكيان قانونا. وفي موجة الهجرة الثانية بلغت 990 الفا خلال الحرب الاهلية. وحاليا يبدو ان هروبا جماعيا يتحضرون له. ورغم تزامن هذه الموجات مع الحروب والاختلالات الأمنية، الا ان الأسباب الاقتصادية تبدو الدافع الأساس لذلك. ثمة في لبنان اكثر من تسعين بالمئة يعيشون تحت خط الفقر، برواتب لا تزيد عن الثلاثين دولارا، وسط انهيار تام للعملة الوطنية المسميات غير مسبوقة، وفي ظل غياب تام لمؤسسات الدولة وكأنها استقالت من وظائفها، وتركت ابناءها لقدرهم دون حسيب او رقيب.

ثمة توقف شبه عام للحياة لجهة العمل الإنتاجي والاستيراد والتصدير حيث لا توفر للعملات الأجنبية، في وقت ازدادت مؤشرات البطالة على الثمانين بالمئة، ووسط شلل شبه كامل للمؤسسات الرسمية بفعل الإضرابات المفتوحة لتصحيح الوضع القائم، فيما حكومة تعتبر مستقيلة لا تجتمع في ظل انقسام سياسي طائفي عامودي حاد وبعد فراغ رئاسي يبدو سيطول.

يتميز الهروب الثالث بمؤشرات سلبية حادة ستترك آثارها الكارثية على التركيبة الاجتماعية السياسية وصولا الى طرح الكيانية اللبنانية كقضية استمرار من عدمه. ثمة اكثر من 270 الف جواز سفر قد تم إصداره قبل فترة ومعظمها من فئة العشر سنوات وهي دلالة مأساوية على التفكير الجمعي للبنانيين لعدم العودة، إضافة الى نوعية طالبي الهجرة فمعظمهم من الفئات العمرية الشابة ومن الجنسين، ومن أصحاب التخصصات العليا كأساتذة الجامعات والقضاة والمحامين والأطباء والمهندسين وغيرهم من الشرائح المهنية الفاعلة، وهي تجاوزت الـ 77 بالمئة من مجموع المتطلعين الى الهجرة او الهروب الكبير. والملاحظ ان الامر لا يقتصر على الشرائح متواضعة الدخل او الإنتاج انما ثمة موجة هجرة من الشرائح الميسورة ما يفقد الاقتصاد احد الاذرع الإنتاجية. وبحسب تقارير البنك الدولي فلبنان لن يتمكن من العودة لوضعه الاقتصادي الذي كان سائدا قبل العام 2019 أي عند انفجار الازمة قبل عشر سنوات قادمة ذلك في احسن الأحوال، ويمكن ان تصل الى 19 سنة في اسوأ الأحوال، ذلك يعني ان كثيرا من اللبنانيين يتحينون الفرص للهجرة حتى الجماعية.

بالمحصلة ثمة ارقام وتداعيات مرعبة في الواقع اللبناني المعاش، يبدأ في خلل التركيب السكاني الحالي والمستقبلي، علاوة على الأثر المنتظر أيضا في مشاريع الحلول الإقليمية اذا بدأت في ظل مئات آلاف النازحين واللاجئين، بل الملايين غير المسجلين في لوائح الأمم المتحدة، الذين يسهمون في انهيار الواقع السياسي والاجتماعي اللبناني. والأمر لا يقتصر على الهجرة الخارجية، بل يمتد الى الهجرات الداخلية، التي ترتفع بنسب ملحوظة بسبب الوضع الاقتصادي وخيارات اللجوء الى الأرياف والقرى، الذي يمكن ان يعزز الفرز الاجتماعي والطائفي، والذي يسهم أيضا في تأجيج الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية وصولا الى انفلات الأوضاع الأمنية.

ربما ما ينتظر لبنان يتعدى الواقع الاقتصادي والاجتماعي، الى طبيعة الكيان ونظام الحكم الذي يمكن ان يستمر به لاحقا، ثمة متغيرات بنيوية حصلت في ظروف إقليمية ودولية تتهيأ لمتغيرات جيوسياسية، فهل سيتمكن لبنان من الاستمرار بصيغة مقبولة لأبنائه، ام ان الهروب الثالث سيحدد شكل لبنان وواقعه المأساوي؟ ثمة ماء في الفم السياسي اللبناني يصعب البوح به.