انحسار الأدب الشعبي في زنزانة الذاكرة

النص الشعبي هو الأقدر في اختصار حركة مجتمع يتجسد في إبداع جمالي.. تنوعت موضوعاته ثراء وواقعية في تدوين الأحداث بفصول متسلسلة بمرونة المنطق العفوي الدارج.

يأخذ الخوف على الأدب الشعبي الآن مساحة أوسع.. فالإحساس يتعاظم بتحوله إلى عجوز حزينة، تنزوي منعزلة عند ناصية طرقات تعددت، وهي تهذي بخرافات تسيطر على ذاكرتها مع تراجع جيل شعري جديد عن إحياء علاقة حب معها ككائن يتفجر جمالا وإثارة رغم ما تحمله من روح الماضي بمورثه الإنساني..

الأدب الشعبي حي ينبض.. انتزع مساحته في الثقافة نوعاً أدبيا، يفرض ذاته، لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه،ويظل يحتل موقعاً حيويا في واقع الحياة اليومية رغم تجددها واكتسابها خصائص عصر  تكنولوجي متغير .

هموم الحياة اليومية.. رغبة الإنسان، أحاسيسه، تطلعاته تختصرها القصيدة الشعبية باقتدار لا يضاهيه اقتدار آخر.. وتصل عبر خطوط تواصل روحي إلى القلب والعقل معا فتؤثر فيهما باتجاه الفرح أو الحزن أو  التحريض على انجاز فعل ما..

ويجد الناس ذاتهم  في قلب شعر شعبي  يفصل خارطة أحاسيسهم تفصيلا ويمنحها أدوات التعبير عن وجودها ..

نمط من الكلام يحاور القلب دون وسيط  يؤثر في النفس أكثر من إي نمط أخر.. فهو  الشعر  الذي يحمل في خزائنه الذاكرة الشعبية التي تقترن بمورثها خصوصية من خصائص وجود امة حاضرة تنتقل عبر الزمن دون غياب..  

ويأخذ النص الشعبي مكانه الحيوي في  الذاكرة ويتحول إلى وثيقة رسمية تؤرخ بلغة الشعبي الدارج لحدث ما في زمن ما، في مكان ما، تطبعه بشخوصه أبطالا يتحركون في بيئتهم.. فالثقافة الشعبية احتوت ثراء معرفيا يكشف عن مكونات الهوية الوطنية وهي تحسم حضورها المتجدد في كسب صراعات التحديات المصيرية.. 

 النص الشعبي هو الأقدر في اختصار حركة مجتمع يتجسد في إبداع جمالي.. تنوعت موضوعاته ثراء وواقعية في تدوين الأحداث بفصول متسلسلة بمرونة المنطق العفوي الدارج..

ذاكرة  الأدب الشعبي لا تخطئ ونصوصها تمتلك الموهبة الانفعالية والقدرة ذاتها التي تحرك القدرة الروحية لشاعر شعبي امتلك أصالة المفردة الشعرية في بيئة شعبية..

القصيدة الشعبية في خطر !!

الخطر يكمن في انتمائها إلى دائرة ثقافة معاصرة تتأثر بالمتغيرات التي تتخلى عن الخصائص البيئية ومضامينها المتوارثة.. كما يكمن الخطر في سعي المالكين لأدوات النطق بها نحو اكتساب مقوماتها من قراءات سطحية لمراجع تراثية واقتباس يخلو من الحرفية لتجارب شعرية موروثة..

 الشاعر الشعبي لا ينفصل طبعا عن ثقافة العصر أو يقف إزاءها في خندق معادي، ولا يعطل حواس التواصل مع العطاءات الحضارية والفكرية المتجددة.. فهو بمورثه الشعبي وغنائيته الحاضرة وجه من أوجه الفاعلين في ثقافة معاصرة تتنوع  بإبداعاتها الإنسانية ... شرط امتلاكه روح الأصالة المعبرة عن المضمون البيئي القابل للتجديد بإحساس عفوي قادر على تحقيق إضافات جمالية ..

هكذا التقى الخطيب بالمخاطب في لفظ لساني موحد، يشترط  ضمان حق  المتلقي الشعبي في فهم المعنى والإيحاء والإرضاء والإقناع بعيدا عن تعقيدات لغوية لا تفهم معانيها إلا النخبة .

الأصوات في ساحة الشعر الشعبي تعبر عن وجودها دون انقطاع.. وتعلن عن حضورها فهي الكفيلة بتجسيد  مكانة الشعر الشعبي فناً يرتبط بمسارات تطور المجتمع في حاضره ومستقبله انطلاقا من ماضيه ومدونا أمينا لتاريخ امة ومعبرا صادقا عن عاداتها وتقاليدها.. فالشعر الشعبي لغة إنسانية لا تحتاج إلى قواعد ترجمة، وصورة شفافة لا تعقدها الرموز،وبيئة تعبر عن ذاتها، آلامها، أفراحها، ذكرياتها، هجائها، مدحها وتحرر رسائلها العاطفية في حوار روحي مفتوح..

وأي فن إنساني آخر يمكنه الوصول إلى قدرات القصيدة الشعبية في اختصار حياة تعددت وظائفها...؟؟

القصيدة الشعبية المتسامية إلى إيقاعات غنائية تبقى جزءا من الحياة اليومية وطقسا من طقوسها التي يلتقي حولها شعب يتوحد بلسان شعبي لا يتكلف الصنعة في نطقه ... إنها مرآة عاكسة لوعي وتاريخ وثقافة شاعرها المعبر عن مضامين الناس المحيطة به أنها بانوراما لآيات العشق للوطن والحبيبة والجمال وكل حيوات الوطن والطبيعة والإنسان.

القصيدة الشعبية الرحم الذي يتشكل فيه النص الغنائي  المؤدى في احتفاليات شعبية ..فالقصيدة يقدمها الشاعر وليدا يكبر لحظة ولادته لتقرأ في منتديات الشعر.. وتغنى بلسان شعبي عفوي وهي تحمل وظائف جمالية وفكرية تكشف بوضوح عن  دلالات ورموز لزمنها وتطلق عبير الماضي في فضاءات المستقبل..

الشعر الشعبي نمط من أنماط الأدب الذي يختص بخطابه الموجه إلى الشعب كل الشعب  وليس لنخبة أو فئة فهو الناطق دون غيره باللغة الشعبية.. وهو كيان أدبي له عناصر كينونته الإبداعية وملامحه الجمالية ومضامينه المؤثرة..

 الفنون الأخرى تتراجع في تنوع وظائفها أمام الشعر الشعبي الأقرب إلى شرائح  تباعدت في تقسيمات مواقعها الاقتصادية ومستوياتها الاجتماعية والعلمية والتقت في أداء أغنية من غنائياته المحفوظة عن ظهر قلب ..

خيال الشاعر الشعبي لا ينقطع عند سقف ما.. والخيال الا متناهي ينطلق من وعي يتنامى في خلايا النشاط العضوي للعقل.. وأصالة إبداعه الروحي نتاج خالص لعمق التجارب الإنسانية.. وعفويته المؤسسة لجماليات السهل الممتنع تتدفق من شواطئ ثوابتها التي تحميها من التبدد  في كونية العدم.. هو شامخ ببنائه الشعري المتناسق، ومتفرد بمخيلة حسية تقترب بالذوق الشعبي من أحدث الحضارات الإنسانية الراهنة..

وجدية التشكل الفكري-الإبداعي للشاعر الشعبي المعاصر هو ضمانة لاستمرار العلاقة بين القصيدة الشعبية و متلقيها، والحفاظ على حركية الإيقاعات الحياتية ورؤاها الاستشرافية .

وفن الشعر الشعبي مازال بعيدا عن دوائر العلم الحديث في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي رغم ارتقائه دون غيره إلى قدرة التعبير عن شؤون الأمة و شجونها وأحاسيسها وعنفوانها وشيمها وخصائلها وشحذ هممها واستنفار طاقاتها الكامنة وارتكاز ثقافتها على قاعدة  موروثه الأدبي المكون لمفردات العصر رغم التغيرات "التكنو-اجتماعية".

ودراسة ألأدب الشعبي وتقويمه ضمن قسم مستحدث من أقسام كليات الآداب و العلوم الإنسانية على خطى جامعات عالمية أضحى ضرورة تفرض نفسها بوصفه نوعا من أنواع الأدب الممتد بعطائه الشعري في خارطة وجود الأمة الأزلي ومنطلقا من منطلقات الأدب المدون بلسانيات لغة فصحى.. واصل تراثي من أصول الأدب المعتمد في الدواوين الرسمية.. وليس مجرد  دلالات ومضامين وظواهر  تدرس في أقسام علم الاجتماع دون الأخذ بنظر الاعتبار صوره التعبيرية ومضامينه التأثيرية وطرقه الجمالية المختلفة ودقة موازينه الشعرية المتآلفة مع لحن موسيقي تتصاعد به مشاعر روح صادقة..