"أين عمري" وزواج القاصرات

العمر لا يحتسب بالسنين، ولكنه يحتسب بالإحساس. قد تكون في الستين وتحس أنك في العشرين، وقد تكون في العشرين وتحس أنك في الستين!
هوراس: سيكون سيد نفسه، وسيعيش في ابتهاج، من يمكنه أن يقول كل يوم: لقد عشت
مازلنا نعاني من مشكلة زواج القاصرات التي تناولها أحسان عبدالقدوس في روايته

يقول الشاعر هوراس: سيكون سيد نفسه، وسيعيش في ابتهاج، من يمكنه أن يقول كل يوم: لقد عشت.
ويقول الكاتب أحسان عبدالقدوس في الصفحة الأولى من رواية أين عمري "إن العمر لا يحتسب بالسنين، ولكنه يحتسب بالإحساس. قد تكون في الستين وتحس أنك في العشرين، وقد تكون في العشرين وتحس أنك في الستين!".
قرأت المقولتين في نفس الفترة تقريباً، وأجد أنها تحملان نفس الرسالة، وهي على الإنسان أن يسعى إلى تحقيق السعادة في حياته، وأن يجد البهجه واللذة في أيامه، وأن يجد القوة والعزيمة على التخلص من كل ما يعكر صفو أيامه ويحرمه السعادة المنشودة. 
كان كاتب الحب والحرية صحفيا سياسيا بامتياز، لكن رواياته تنوعت ما بين قصص الحب والقصص الأجتماعية. وإني لا أنكر أعجابي بكل ما كتبه، غير أن رواية "أين عمري" لها مميزاتها الخاصة. 
كتب صاحب "أنا حرة" رواية "أين عمري" في الخمسينيات من القرن العشرين، ونحن الآن في سنة 2021 مازلنا نعاني من مشكلة زواج القاصرات التي تناولها أحسان في هذه الرواية. 
في عمر السادسة عشر عاما يكون حلم أغلب البنات هو أن تحظى بملابس السيدات الأنيقة، وأن تضع أحمر الشفاه وترتدي (حذاء الكعب العالي) لكن عيب مجتمعاتنا العربية هو أنها تربط جميع هذه المطالب البسيطة بدخول النساء إلى مؤسسة الزواج الكبيرة "لن تضعي أحمر الشفاه حتى تتزوجي" دون أن يقولوا لها (حتى تكبري) وإنما لن ترتدي ملابس السيدات الأنيقة حتى تتزوجي، وهذا كله يجعل الفتاة ترغب بالزواج للتخلص من قيود المجتمع. لتضع أحمر الشفاه وتلبس الكعب العالي وتتشبه بالسيدات البالغات سن العشرين والأكبر منهن متناسية أن الزواج قرار مصيري، وأن الاختيار المناسب مهم جداً. 

novel

في رواية "أين عمري" التي تناقش مشكلة مجتمع مازلنا كما ذكرت نعاني منها إلى الآن في أغلب مجتماعتنا العربية، البطلة (علية) تبلغ من العمر ستة عشر عاماً تحلم بأن تتخلص من المدرسة وتلبس ملابس السيدات الجميلة، وأن ترتدي الكعب العالي وتضع أحمر الشفاه، لكن والدتها الأرملة لا تسمح بكل هذا، وتؤكد عليها أن هذه الأفعال من حق المتزوجات فقط. مما يدفع بعلية لأن توافق على الزواج من (عزيز بك) الذي يكبرها بأكثر من ثلاثن عاماً، لإجتياز العقبة التي تقف في طريقها لتحقيق أحلامها البسيطة. قرارٌ مصيري لتحقيق أحلام أقل ما توصف إنها (بسيطة) وعزيز بك هو صديق والدها المتوفي من سنين، وظل يتردد عليهم يغرقهم بالهدايا والمودة إلى أن تمكن من يقنع والدة عليه بالزواج من ابنتها رغم فارق السن، وما يثير الدهشة في الرواية عدم ذكر سبب موافقة الأم على تزويج ابنتها من هذا الرجل الذي يكبرها بثلاثين عاماً وأكثر، وعلى الأغلب رغبتها في أن تتخلص من مسؤولية الفتاة الصغيرة، أو لأنها هي أيضاً تزوجت في مثل هذا العمر وترملت وهي شابة في منتصف الثلاثين.
وتتزوج عليه من عزيز بك وهي سعيدة ليس بعزيز بل بفستانها وطرحتها وما سيقدمه لها الزواج بأن تعيش حياة السيدات التي تحلم بها (ولم تحس بالعريس، ولا التفتت إليه بقدر التفاتها إلى ثوبها، وبقدر تعمدها أن تقلد في جلستها وفي مشيتها، وفي كل حركة من حركاتها، نجمة من نجوم السينما، أو تتبع نصيحة همست بها في أذنيها إحدى صديقاتها الكبار). وبزواجها من هذا الكهل تبتعد عن كل صديقاتها غير المتزوجات، وتبدأ بأختيار صديقات متزوجات أكبر منها سناً وتجربة، وتبدأ بالتشبه بهن في كل شيء. وبعد مرور السنين نجد تبدل حال عليه فكأنها سيدة تبلغ الأربعين عاماً باختيار ملابسها ومعاملتها للخدم ومحاسبتها لناظر العزبة وصمتها الدائم الذي يشبه صمت والدتها الأرملة. وساء الوضع أكثر بمرض عزيز وإحساسه بقرب أجله وبأنه سيترك هذا الكنز الثمين وهي في ريعان شبابها سيدة تبلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً متزوجة من رجل يبلغ الستين وأكثر، وبينه وبين والموت خطوات لا أكثر، وتغيرت معاملة عزيز لعلية بتغير وضعه الصحي فبدأ يقسو عليها وهي تسامح وتتحمل. 
(واجتمعت الحياة والموت في بيت واحد، كل منهما يحاول أن ينتصر على الآخر، وكل منهما يحاول أن يجذب الآخر إليه. الموت يحقد، والحياة تصفح. الموت يقسو، والحياة ترحم)! 
(ولم تترك هذه الأيام عليه دون أن تؤثر فيها. فقد جفّت حتى أصبحت كحزمة من أعواد الحطب، لا طراوة فيها ولا شيء من معاني الأنوثة. حزمة خشنة ليس فيها حب، وليس فيها مرح، وليس فيها ضعف، ولولا مظاهر الشباب التي بقيت لها لما كان فيها حياة). لكنها كانت تجد بعض الطمأنينة عندما يزورهم الدكتور خالد الطبيب الذي يتابع حالة عزيز، وكان عزيز يحقد على خالد ويشعر بأنه  يرغب في عليه. ويموت عزيز وهو يتهم عليه بعلاقتها مع خالد. 
وبموت عزيز تشعر عليه بأنها فقدت عمرها الذي ضيعت أجمل سنواته بارتباطها برجل كبير غيور وأناني، وأصبحت أرملة وهي في التاسعة والعشرين. هل ستعيش حياة والدتها الوحيدة الحزينة دئٔماً التي تخافُ الاختلاط بالمجتمع حرصاً على سمعتها لأنها أرملة هل ستدفن وهي حية؟
(هل هذه حياة امرأة في التاسعة والعشرين؟  عمر الأنوثة الناضجة، وعمر الحياة والحب؟.
وهل كان عمرها يوماً الثامنة والعشرين أو السابعة والعشرين. وهل عاشت يوماً في عمر العشرين أو التاسعة عشر أو الثامنة عشر؟! 
هل كانت يوماً صبية، وهل كانت يوماً شابة؟ 
وهل شربت من هذا الصبا، وارتوت من هذا الشباب؟ أبداً .. 
إنها قفزت مرة واحدة من سن الخامسة عشرة إلى سن الأربعين، وضاع ما بينهما من سنوات العمر!). 

(لقد ثارت على أمها .. هي التي زوجتها هذا الرجل، وكانت تعلم أنها ستكون أرملته وهي في التاسعة والعشرين من عمرها. هي التي اغتصبت صباها وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وقضت على شبابها، وألبستها السواد وهي بعد لم تصل إلى الثلاثين). 
تقرر عليه كسر القيود بعد وفاة زوجها بمدة بسيطة، ترفض الرجوع إلى بيت والدتها وتسكن في شقة أنيقة بمفردها وتعود إلى سن السادسة عشر! فساتين فضفاضة رقيقة وأحذية ذات كعب منخفض وأحمر شفاه بسيط وزينة قليلة، وتتعرف على عادل وهو شاب وسيم يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً، وتنظر إليه على أنه صديق تتنزه معه تناقشه بأحاديث الصبايا اللواتي لم يبلغن سن العشرين، لكنه ينظر إليها على أنها سيدة، أنثى متكاملة في سن الثلاثين. وتبدأ بالأختلاط معه في مجتمعات اللهو والعلاقات المتعددة، ولكنها لا تستطيع أن تتعايش معهم، ولا تستطيع أن تنظر لعادل على أنه حبيب أو زوج، فعادل بالنسبة لها صديق يذكرها بأيام عمرها الذي لم تعشه مثل باقي الفتيات (إنها تعلم أنها لا تستطيع أن تندمج في هذا المجتمع الذي أقحمت نفسها فيه، وتعلم أنها لا تستطيع أن تتبذل كما تتبذل نساؤه أو تعبث كما يعبث رجاله. إنها لا تستطيع أن ترقص كما يرقصون، أو تعيش بين الكؤوس كما يعيشون أو تضحك وتتحدث كما يضحكون ويتحدثون). 
ورغم أنها كسرت كل القيود، وحاولت أن تعوض أيام صباها إلا أنها لم تجد السعادة المنشودة، كثرة التفكير وقلة النوم والإرهاق يدفعها لأن تزور عيادة الدكتور خالد الذي قطعت علاقتها به منذ وفاة عزيز، يستقبل خالد الأخيرة بفرح كبير، ويعترف بحبه لها، وأنه كان متأكداً من إنها ستلجأ إليه في يوم من الأيام، وتشعر عليه أخيراً بالاستقرار والسعادة، لكن الخوف من عادل وكلام المحيطين بها هو ما أرقها، وكأن السعادة تتلكأ بالوقوف عند بابها (لم يكن لها ماض تخاف منه على حاضر، بل كانت بلا ماض ولا حاضر، وكانت الأيام كأنها وقفت من حولها لا تتحرك بها، ثم تحركت بها الأيام، وأصبح لها حاضر تخاف عليه ولها ماض تكرهه .. أصبحت تخاف من ماضيها على حاضرها، تخاف منه على خالد، وعلى حبها).
وتتزوج عليه بخالد (الاختيار الصحيح بعد المتاهة)، وبعد أن تحاول مصارحته بطبيعة علاقتها بعادل، لكنه يرفض أن يسمع ولا يهمه الماضي بقدر ما يهمه الحاضر، وكان الحاضر لهم (وعرفت أن العمر لا يحتسب بالسنين، ولكنه يحتسب بالإحساس، وأن الإحساس لا يكتمل ولا ينضج إلا بالحب). 
ما عانته عليه خلال هذه الرواية هو ما تعانيه الآف الفتيات يومياً بزواجها، وهي قاصر، عندما تتحول الأحلام الوردية إلى كوابيس. 
نتمنى أن تعرف كل فتاة بعمر الورد أن الزواج ليس فستاناً أبيض فقط، وأن السعادة هي أهم ما نحن بحاجة إليه، لنعطي الطفولة حقها.