'بئر' منذر عبدالحر الحزين
منذ مقدمة الكتاب "بئر يوسف" لمؤلفه الشاعر والروائي منذر عبدالحر تعرف أنك ستتلقى فيضاً من حكايات تم السكوت عنها من بعض الأدباء الذين دونوا سيرهم ونشروها سواء على شكل كتب أو كتابات متسلسلة في صحف أو مجلات أو مدونات إلكترونية، وحين تتوغل في ذلك الكتاب ستصطدم بكثير من المعلومات التي لم تمرّ أمامك أو سمعت بها، وهي معلومات ثقافية وسياسية وإجتماعية مشتبكة ومستفزة ومثيرة، لكنك في هذا الكتاب لن تجد ما يمكن تسميته الرأي الحاد أو المفروض بل هي مجرد آراء شخصية تخصّ صاحب السيرة الذي يؤكد على ذلك بالقول "أؤكد أنني لن أعطي آراء حاسمة نهائية في بعض الأحداث والظواهر، فأنا راء بالمقام الأول، وشاهد مازالت ذاكرته قادرة على استحضار ما حصل، وكأنه حدث قبل أيام قلائل وليس عقوداً من الزمن بدأت تراكم علينا الأحداث والأوجاع والظواهر الثقافية والاجتماعية المختلفة".
مواقف شجاعة وردت في هذا الكتاب تخصّ السيرة الشخصية منذ البواكير دونها المؤلف من دون تزويق للحقائق، بل تركها منسابة توثق لمراحل حياة المدوّن تاركاً للمتلقي والشهود حرية الموافقة عليها أو رفضها، فهو على سبيل المثال يعترف بتواجده المبكر في نشاطات حزب البعث المنحل والتي أرغم على التواجد فيها بضغط وتهديد من بعض زملائه المنتمين لذلك الحزب.
كما وردت في الكتاب إعترافات يهرب منها كثير من الأدباء ومن تلكها: اضطراره لكتابة قصائد المديح للطاغية بعد أن نال منه فقر الحال والضنك والعوز بعدما فقد عمله في إحدى الصحف نتيجة نفاق ووشايات بعض زملائه أو أصدقائه، فالكاتب هنا يقدم لنا شرحاً مفصلاً لما وصل به الحال من عوز وفقر لدرجة أنه لا يملك مبلغاً يمكّنه من دفن جثمان والدته المحجوز في ثلاجة المستشفى، وبعد أن ينقذه أحد الأدباء الكرد (خسرو الجاف) من هذا الموقف الصعب والمؤلم بدفع التكاليف يذهب الى الموقف الأصعب وهو ضرورة معايشة الواقع وكتابة قصائد المديح وهنا يروي ما نصّه "في تلك اللحظة اتخذت قراراً مهماً في حياتي، وأنا في مفترق طرق، أما أكون على شاكلة بعض الأدباء الصعاليك الذين ماتوا كمداً وجوعاً وإهمالاً، وأما أن أكسب شيئاً من استقرار، وهذا يلزمني كتابة قصائد المديح لرأس السلطة للحصول على مكاسب مالية أعيش منها وأسدد ديون الفندق وديوناً غيرها".
في الكتاب معالجات كثيرة قام بها المؤلف طوال تواجده في المشهد الأدبي أثناء حكم البعث الصدامي، وفي كثير من الصفحات نجد حكايات عن الخلاف والإختلاف بين قيادات اتحاد الأدباء آنذاك، فقد تطرّق الكاتب أو مدوّن السيرة الى أحداث مؤسفة حدثت بين أدباء يقفون على أعلى هرم قيادة الاتحاد، وصلت بهم الخلافات الى عقد صفقات وقيامهم بمؤامرات تسقيط متبادل، بل ويشرح كيف وصل الحال بأحدهم مداهمة مقر الاتحاد وسبّ وشتم وصفع الأدباء، وقد كان الكاتب شجاعاً حين ذكر وبالأسماء المتورطين بهذه الأحداث السخيفة جداً من وجهة نظري.
الكتاب في كثير من صفحاته يروي لنا التدخلات العلنية لحزب البعث في سياسة اتحاد الأدباء، بل يكاد أن يعلن المؤلف أن أغلب قرارات الاتحاد تأتي من قيادات عليا في الحزب وتكون ملزمة وغير قابلة للنقاش، كما يروي المؤلف التدخل المباشر للعدي صدام حسين في تفاصيل كثيرة من عمل اتحاد الأدباء وتدخله حتى في انتخابات الاتحاد من دون الرجوع الى النظام الداخلي، وتجاوز كافة السياقات والتعليمات، كما يرد في الكتاب كيف ينتصرعدي للأدباء الشباب ويضعهم على رأس الأقسام الثقافية للصحف والمجلات آنذاك، وهو الفعل الحسن الوحيد الذي قام به نجل صدام حسين.
الكتاب ضم مقالات وقراءات نقدية وقصائد للمؤلف وبعض الأدباء الذين استشهد بهم من أجل أن تكون الحقائق موثقة بالكلمات والشهود الأحياء، فضلاً عن ذلك يتركنا المؤلف قبالة أفعال وظواهر ثقافية كثيرة لم نكن قد سمعنا بها، فالكتاب لم يشتغل على السلبيات فقط بل ترك حيزاً كبيراً لبعض الأحداث المفرحة التي مرّت بالمشهد الثقافي العراقي، وحتماً هذا الكتاب لا يمكن حصر محتواه ببضعة صفحات، بل يمكن ترك إضاءات مختلفة سأتركها للمتلقين الآخرين. .